سرديات تأسيس الدولة العراقيَّة

آراء 2021/12/13
...

  د.ثناء محمد صالح
هناك في برن بسويسرا في الثامن من أيلول 1933، وبعيدا عن الوطن الذي كافح لتشييده حتى النفس الاخير، رحل الملك فيصل بن الحسين، مؤسس ورمز الدولة العراقية الحديثة، الدولة التي مضى على تأسيسها مئة عام . اقترنت العلمانية بوسطية التفكير الفيصلي الذي ميزته في خطواته نحو تأسيس الدولة العراقية «الا أن هناك من تطرف تفكيرا علمانيا او تطرف تفكيرا دينيا، مما حال دون تحقيق ما تطلع اليه الملك فيصل في سعيه لبناء الدولة العراقية».
 
إن المفهوم من وجهة نظرنا مرن ومطاط ممكن تنضوي تحته كل الثنائيات الحاكمة لواقع المجتمع العراقي منها: التقليدي والحديث او التقليدي 
والمعاصر. 
وتلك الثنائيات حكمت واقع حال المجتمع العراقي الذي نفض غبار عهود من العثمنة المتخلفة، التي أودت بالفيصلية بعد مضي عشر سنوات من حكمه أن يكتب مذكرات يوزعها بين الساسة العراقيين، شارحا من خلالها حال المجتمع العراقي وما يتطلبه من جهود للنهوض به ومنها: « أقول وقلبي ملآن أسىً.. إنه في اعتقادي لايوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خاليةمن أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل شعبا نهذبه وندرّبه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا 
التشكيل».
الا أنه أسيء فهم تلك المذكرات ووصمت بالشعب العراقي فلتلك المقولة تتمتها، التي تحمل الدولة العثمانية هذا العبء الثقيل والتركة الثقيلة، فالعراق يشكل الأطراف بالنسبة للامبراطورية 
العثمانية.
وآخر تعامل معها بواقعية وعقلانية مستشهدا فيهذا الصدد بسؤالٍ لامعٍ للباحث الألماني روبرت تسيمر، في كتابه «في صحبة الفلاسفة» مفاده بأنه: لماذ اسبقت أوروبا الحضارة العربية الإسلامية في طريق التقدم، بينما كانت الحضارة العربية الإسلامية متفوقة زمنيًا في حراكها الحضاري على أوروبا حينذاك؟ يكشف هذاالباحث اللامع عن هذه الإشكالية بجواب مثير للانتباه، وهو إن الحضارةالعربية الإسلامية كانت تفتقر إلى المؤسسة، والميزة التي تفوّق بها الغرب على هذه الحضارة هي المؤسسة 
بالتحديد. 
بمعنى إن الفارق الجوهري بين الاثنين هو المؤسسة؛ ليس التفوق العرقي، ولا ندرة المواهب! بل حين يكون فعلك يخضع للعمل المؤسسي، فسيظهر لك مجتمع قائم على العلاقات العقلانية. أي مجتمع مواطنين، ودولة حديثة تضبط إيقاع الشعب، بسن القوانين، وتقديم الخدمات، وبناء 
المؤسسات.
فالافتقار المؤسساتي عدَّ بمثابة الحلقة المفقودة مع العهد الفيصلي، الذي وصفه عالم الاجتماع الكبير الوردي وأجاد وصفه، مثلما أرخه المؤرخ الكبير العلاف، ناقلا الواقعة التاريخية كما هي لا كما يجب أن تكون، ليشتركا القول: فالوردي قائلا: يعجبني من الملك فيصل الاول، أنه سار لإنهاض العراق على طريقة معتدلة، لا افراط فيها ولا 
تفريط . 
فهو من جهة لم يجمد مع الجامدين الذين يرون ضرورة إبقاء القديم على قدمه، ومن الجهة الأخرى لم يندفع مع المجددين اندفاعا طائشا، فسلك طريقا وسطا وكان ذلك من اسرار نجاحه.
كان فيصل الاول قد توج ملكا على العراق، في حفل بسيط بمبنى القشلة في بغداد بتاريخ 23 اغسطس عام 1921 . 
وربما كان العزاء الاخير للملك الهاشمي المولود في العام 1883 هو نجاحه – قبيل رحيله – بالحصول على استقلال العراق، وانضمامه لعصبة الامم بوصفه دولة مستقلة، ليضيف دعامة قوية لما بدأ به لحظة التأسيس . كانت هذه النتيجة المنشودة قد حسمت في مفاوضات شاقة مع بريطانيا بدأت في العام
 1930 .
وكما يقول أحدهم، بالتأسيس الصبور لا التهور والارتجال الحماسي، أرسى فيصل الاول قواعد ومرتكزات الدولة العراقية في طورها الاول. ساير بريطانيا العظمى المحتلة للعراق بمنطق «خذ وطالب} وتعامل مع ابناء الشعب العراقي بروح وطنية، عربية الطابع. 
تريد منهم المزيد من الصبر والعمل حتى تنضج الثمار وتؤتى شجرة العراق «وطنهم وهويتهم» أكلها للجميع. 
اعتبر العلاف، الملك فيصل أحد الرجالات الذين قامت على اكتافهم النهضة العربية، والمؤشر اعلاه قد يكون فيه بارقة أمل مع عراق اليوم الذي يشهد «إشكالية العلمنة والتدين» فإسلامه السياسي يدعو الى التغيير ومزيد من الانفتاح الحضاري والعلماني مستشهدا بتراثه في التعايش والرؤية المدنية نحو الدولة والامة كما يقول استاذ الاجتماع السياسي علي طاهر في كتاب {ما بعد الاسلام السياسي مرحلة جديدة امام أوهام ايديولجية}. 
فالاوهام ذاتها هي من تحملتها الفيصلية لكنها بددتها بتفكيرها الذي أبى التخلي عن التفكير الديني فجاء تفكيره «وسطياً» مما ذلل الكثير من العقبات وساعد في استقطاب اصحاب المراجع الدينية او اصحاب العقول المحافظة او المتعصبة تحت شعار «عراق واحد وموحد «.. ففي سبيل بث الوعي في هوية العراق الجديد، وتقديمه قبل اي انتماء آخر، ولأنه كان يستشعر أهمية البعد الرمزي في تأسيس هوية الدولة العراقية فقد شهد عهده امثلة ناجحة على الذكاء السياسي وحسن التخطيط، فحين تم البدء بتأسيس الجيش الجديد، سجل نفسه اول جندي فيه ليشجع العراقيين على الانخراط في صفوفه، وحمل أول أفواجه {فوج موسى الكاظم} اسم الامام السابع من ائمة الشيعة الاثني عشرية.