أحمد عبد الحسين
"كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة، كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود، كان زمن النور، وكان زمن الظلمة، كنا جميعاً ماضين إلى الجنّة مباشرة، وكنا جميعاً ماضين إلى جهنم".
هذا مفتتحٌ لا يُنسى لرواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز، في وصف زمنه، لكنه في الحقيقة وصفٌ دقيق لكلِّ الأزمنة. كلُّ عصرٍ هو أفضل العصور وأسوأها، ويمكن أن يُذكر لاحقاً في زمن مقبل بحنين وحسراتٍ باعتباره يوتوبيا، كما يمكن أن يستعاد مصحوباً باللعنات بوصفه ديستوبيا.
دليلُ ذلك أنَّ كثيراً من الناس بيننا يسمّون حقبة السبعينيات والثمانينيات زمنَ الخير، بينما آخرون لا يهمّ إن كانوا أكثر أو أقلّ عدداً يرون في هذه الحقبة السوداء الخاكيّة بداية تحوّل العراق إلى حطام.
لسنا مؤرخين، ولذلك فإنَّ أحكامنا عن التاريخ ذات منشأ نفسيّ بالضرورة. وكلّ ذي منشأ نفسيّ خطأ أو هو أقرب للخطأ.
اليوم تُخاض معارك صغيرة حول كل حدث. معارك فيها كثير من أحكام القيمة، يوضع فيها المجهرُ لا على الحدث نفسه بل على حالة المرء النفسيّة لتبدو هي المعيار.
في زمن مقبلٍ سيذكر مثقفون حقبتنا بوصفها لحظة انفراج وبداية انفتاح العراق على محيطه ففيها استردّتْ آثارنا وأتى إلينا مفكرون وباحثون عرب وهي أكثر حقبة شهدت فعاليات ثقافية كبيرة. وسيذكرها آخرون باعتبارها الحقبة الأشدّ ابتذالاً ففيها دُعي إلى بغداد فنانون هابطون لفظتهم أمزجة بلدانهم، وفيها صار التفّه من الرجال والنساء مشاهير بفضل قدرة السوشيال ميديا على تحويل التفاهة إلى
فرادة.
ما دمنا لسنا مؤرخين، فيمكن لهذا الزمن أن يكون أسوأ الأزمنة وأحسنها في آنٍ واحد.