تتفيه وتحريم

العراق 2021/12/20
...

أحمد عبد الحسين
 
سلطة البعث المنحلّ هي من بدأت مشروع تتفيه الفنّ في العراق. في حقبة الثمانينيات اصطبغت الموسيقى والغناء باللون الزيتونيّ وتمجيد العنف والقائد الأوحد، وابتُذل الفنّ ومُرّغ اسمه في التراب بعون من ذائقة البعثيين المتدنيّة، حدّ اختلاط صورة الفنان بصورة المهرج أو المتهتك.
ثم حين هبّت على البعث رياح الإيمان أسهمت "الحملة الإيمانية" في التضييق على أنواع معينة من الفنون. وهكذا انتقل الفنّ كسير الخاطر من التتفيه إلى التحريم بحسب ما تشتهي ذائقةُ مَنْ لا ذائقة له.
الفنّ مطارَد بهاتين الهراوتين: تتفيهه وابتذاله ونشر الهابط منه وإضحاك الناس عليه، ثمّ تحريمه وعدّه منافياً للشريعة. وهو بين هذا وذاك أضاع صورته الحقيقية وبات جمهوره يطلبونه فلا يجدونه.
ليس وضع الفنّ اليوم مختلفاً إلا قليلاً. الأغاني الهابطة مثلاً تملأ الأسماع لترسّخ الصورة البعثية للفنان، المهرّج، وفي الآن ذاته تتطاير فرمانات التحريم والتجريم التي تجعل من الفنّ أمراً يجب أن يتقذر منه الناس "المؤمنون".
في الحقيقة نحن نعيش المرحلتين اللتين أتى بهما صدام في آن واحد. نعيش ذائقة صدام قبل إيمانه المفاجئ، ونعيش معها بهرجته الدينيّة التي ضيّقت على الفنّ والفنانين. نحن الآن في مرحلة التتفيه والتحريم معاً.
ليس الفنّ عاراً ولا جريمة إلا عند أناس يحيون غيبوبة عن عالمهم. لأنّ حاجة الإنسان إلى الفنّ أساسية، وإذا ما فكّر ديكتاتور أو متسلّط أن يمنعه أو يحدّ منه فسوف تتخذ هذه الحاجة مسارب لتداهمنا في المنعطف المقبل على غير ما نتوقّع.
لا يمكن لدولة أن تستحق اسمها إلا إذا أعلتْ من شأن الفنّ والفنانين، وإلا فإن عصر الظلمات أليق بها وأنسب.