العذريَّة والحبل بلا دنس

ثقافة 2021/12/20
...

  ناجح المعموري 
وأتى يوسف كالآخرين، وقد تخلى عن فأسه، وإذا اجتمعوا مضوا نحو الكاهن الأعظم، بعدما تسلموا أقلاماً. فأخذ الكاهن قلم كل واحد، ودخل الهيكل وصلى وخرج بعد ذلك وأعاد لكل واحد القلم الذي جاء به، فلم تظهر علامة، لكنه عندما أعاد إلى يوسف قلمه، خرجت منه حمامة وحطت على رأس يوسف، فقال الكاهن الاعظم ليوسف: لقد عُينْت باختيار الله لتقبل عذراء الرب هذه وحفظها قربك. فقدم يوسف اعتراضات قائلا: لي أولاد وأنا شيخ بينما هي فتية جداً، وأخشى أن اكون عرضة للسخرية بالنسبة الى ابناء بني اسرائيل.
 
فأجاب الكاهن الأعظم يوسف: "اخشى الرب إلهك وتذكر كيف عاقب الله العصيان. اخشى اذا يا يوسف أن يحصل كذلك لبيتك. فتقبل يوسف مريم مرتقباً وقال لها: إنني أتقبلك من هيكل الرب وأترك لك المسكن وأذهب لأزاول مهنتي نجاراً وأعود اليك وليحفظك الله كل الأيام/ حسن عبود/ ص508. في خلق عيسى من أم مع الغاء دور الأب، يبرز استحضار مريم مرة أخرى لأهمية الدور الذي تلعبه كأم في نسيج المشاهد الحوارية للشخصيات الرئيسية"، امرأة عمران وزكريا ومريم وعيسى "بعضها ببعض ... وما زل على محمد النبي من أصل واحد هو "أم الكتاب" فإذا كانت مريم في صورة مريم وقد قُدست لأهمية خصوبة الأنثى، فإن مريم من ال عمران قد قُدست للأمومة والدور الذي تلعبه في الجمع والنسب/ سبق ذكره/ ص212. تشعر مريم بعد ابتعادها إلى المكان القصي بألم المخاض والخوف من الجوع والعطش الذين يلجآنها إلى جذع النخلة حيث تتمنى الموت. أما لوجع المخاض، وأما بسبب القلق. في هذه اللحظة ينادي بها صوت من تحتها ليطمئنها بالنسبة إلى الماء وليشير إليها. بهز جذع التي ستساقط عليها الرطب الجني فتأكل وتشرب تطمئن. ينتشر هذا الموتيف كما يشير إلى ذلك الناقد الأدبي نورثروب فراي، في تراث الشعوب ومجمل الحضارات. ترتبط الأنثى بالحديقة أو الواحة في كل الآداب العالمية، حتى أن ارتباط النخلة بالشخصيات المقدسة لا يقتصر على مريم وعيسى، فترتبط النخلة مثلا في الأساطير بمخاض "ليتو وولادة أبولو وارتميس". وأحيانا تكون الشجرة شجرة الجميز كما نراها في جدارية في مقابر سي أهون في واحة سيوه/ صحراء مصر العربية/ التي تعود إلى القرن الثالث قبل ميلاد المسيح. 
إن انجيل متي المنحول، وهو المتأخر عن القرآن، لا يمكن أن يترك أثراً في النص القرآني وقد ألف أصلاً باللغة اللاتينية. وأعتمد هذا الإنجيل في كثير من مراجعة من قصص الطفولة وتقاليدها. ومنها قصة مريم والنخلة.. ونسمع في هذا الانجيل عيسى يطلب من النخلة الانحناء لإطعام أمه من تمرها. وتنبع المياه من الارض ويفرح كل من يوسف ومريم وعيسى فشربوا منها.. ويسبق سقوط الرطب لإطعام مريم بنزول مائدة عيسى من السماء لإطعام تلاميذه.. إن النخلة هي الاداة الاعجازية التي تساعد مريم في اوقات المخاض. (1)
إن مشهد وقوف مريم أمام النخلة والمياه المرتبطة بحدث ميلاد عيسى، هو فضلا عن صورة مريم التي تقوم بالحوار مع شخوص أخر. حوار مريم والرسول، وبين مريم وقوفها، تكشف الشخصية العربية والأعراف عن نفسها في طبيعة التعابير، فمثلاً حين يتمثل الرسول لمريم كرجل تستعيذ مريم بالرحمن لخجلها من ظهوره المفاجئ. وحين يلجئ المخاض مريم إلى جذع النخلة، تعبر مريم عن ألمها بتمني الموت/ سبق ذكره/ حسن عبود/ ص117.
إن مريم تلقح بروح الله الذي يتمثل لها بشراً سوياً، فاذا الرسول هو روح "ملك" وبشر "انسان" ثانياً وان تؤكد مريم على عذريتها في ذكر عدم المساس بها من اي بشر. الا انها تحمل وتضع بألم وصرخة تسمعها في دعائها على نفسها بالموت. وان يعبر عن قوة الانثى وتكليفها الرمزي بالسعي لإطعام نفسها بنفسها بالإيعاز لها هز الشجرة. إلا انها تصمت لاحقاً امام ابن المهد ليتكلم نيابة دفاعاً عنها. لذلك فكون مريم عذراء وأما لا يجعلها مثالا واقعياً للمرأة انما تصبح مريم المثال التاريخي للأم/ سبق ذكره/ حسن عبود / ص122. تذكرنا شجرة الغار التي تقف تحتها حنّة، ام مريم بشجرة مريم التي وقفت تحتها، ورأت على شجرة الغار، وهي ترفع عينها الى السماء، عش دوري، صاحت بألم: "واسف! بماذا يمكنني أن اقارن؟ لمن أدين بالحياة لأكون معلومة هكذا في حضور ابناء إسرائيل.. 
أيمكنني ان اقارن بطيور السماء؟ لكن الطيور.
ولود امامك، يا رب. أيمكنني أن اقارن بحيوانات الارض؟  لكنها ولود، لا يمكنني ان اقارن بالبحر، لأنه مسكون بالسمك، ولا بالأرض، لأنها تعطي الثمار "في أوانها، وتبارك الرب! يتردد بكاء حنة تحت الشجرة في الاتجاه المعاكس، أي بسبب ألم العقم؟ أما بكاء مريم تحت الشجرة فهو بسبب ألم الوضع. 
إن بكاء حنة ودعاءها على نفسها "الويل لي" يضعها في موقف منتقص من القدر مقارنة بخصوبة مريم ودعائها على نفسها "يا ليتني متّ، وينتقل البكاء تحت الشجرة من ألم العقم أو ألم الوضع، من الألم إلى البنت. وكان البكاء صورة نمطية للمرأة "في الانجيل كما في القرآن" تصورها في المها وفرحها باكية وراءه.
وفي الغد... ونزل "يواكيم" مؤيداً من بيت الربّ وأقبل إلى منزله. وحبلت حنّة طفلتها واسمتها مريم.
ونزل أبواها معجبين شاكرين الله ومسبحيه على أن الطفلة لم تلتفت نحوهما. وكانت مريم مربّاه "كحمامة" صورة الطهارة في هيكل الرب وكانت تتلقى طعاماً من يد الملائكة، واذا بملاك الربّ بدا له وقال: يا زكريا، يا زكريا، أخرج واستدع من هم أرامل وسط الشعب، وليأتِ كل واحد بقلم، ومن يختاره الله بعلامة يكون الزوج المعطى لمريم ليحفظها/ حسن عبود/ ص207.
ونحن نقترب من تجربة الحبل بلا دنس وحفاظ على العذرية، لا بد من الإشارة إلى ولادات متماثلة لولادة يسوع ومنها الاله الهندي كرشنا وبوذا ومثير الفارسي قبل المسيح بستة قرون.  
(1) حسن عبود / السيدة مريم في القرآن الكريم / دار الساقي / 2010/ بيروت / ص111.