حسن العاني
على وفق الشهادة المدرسية، فأنا من طلاب الصف الثالث المتوسط، في ثانوية الفلوجة عام 1959، التي جئتها نقلاً من بغداد مع أسرتي، هرباً من أوضاع العاصمة المضطربة، وقد احتفى بي طلاب الثانوية، واكرموا غربتي، فمن دعوة الى المقهى، سرعان ما تطورت الى دعوة غداء او عشاء، وبالغوا في تكريمهم، فأهداني احدهم كتاباً اسمه (في سبيل البعث)، وتبرع الآخر بمظروف يحتوي على منشور (بعثي) ثم دعوني ذات يوم الى حضور مجلس من مجالسهم الثقافية، وتوالت الدعوات والكتب والمنشورات، حتى طالبوني مرة بدفع اشتراك شهري، اطلقوا عليه اسم (تبرع للمناضلين)، اعتذرت عن دفعه، فأنا سليل أسرة لا تمتلك رغيف خبز فائضاً عن حاجتها، وتم قبول اعتذاري على مضض، وقد ظل ذلك الاعتذار نقطة سوداء في روحي النضالية!.
وحدث انقلاب 18 تشرين الثاني 1963، وذهب ثلاثة أرباع اصدقائي البعثيين الى السجن، ولم اعد اتسلم منشورات، ولم يعد احد يعيرني بالنقص الحاد في روحي النضالية، وكنت يومها قد بلغت الثامنة عشرة من العمر، وبدلاً من استثمار هذه المرحلة الشبابية لإقامة شبكة من العلاقات العاطفية، انصرفت الى عوالم الفكر والفلسفة والثقافة، وقرأت الصوفية فسحرتني طقوسها، حتى اطلقت لحيتي واعتزلت النساء والدنيا، لولا إن كتاباً في الوجودية وقع بين يدي فأغراني وقادني الى كتابٍ ثانٍ وثالث وسارتر وكامو، وتحولت الى وجودي منفلت، وتعطرت بعطر الحرية، لولا إن صديقاً طلب مساعدتي وأخفى عندي كتاباً لماركس، خوفاً من السلطة العارفية، وكان بيتي مثل بيت ابي سفيان، من دخله فهو آمن، وفي مدة اسبوع واحد امسى بيتي مأوى لماركس وانجلز ولينين وفهد ورفاقهم، وتعرفت عبر ضيوفي المطاردين على الديالكتيك والبروليتاريا الرثة والمادية التاريخية، ولأن تلك الأفكار سيطرت على عقلي وسلوكي، فقد هجرت سارتر، وطلقت الصوفية وثرت على البعث، ورحت انظر الى الآخرين بعين حمراء، وكان اعتراضي الوحيد على تلك الأفكار الحمر، هو انها تلغي الحكومة عند قيام النظام الشيوعي الاممي، وتلغي بالضرورة الجيش والشرطة والامن والمقاومة الشعبية والحرس القومي ومجالس الاسناد وحرس الحدود، اما البديل فهو (وعي الجماهير + قوة البروليتاريا + ضمير العالم الجماعي!)، الآن وقد جاوزت السبعين، اعترف أن اعتراضي لم يكن في محله، فقد اكتشفت مدى سعادة أي شعب من دون حكومة تسومه العذاب، وبمقدوره التمتع بكامل حريته، يضحك ويبكي ويسرق ويقتل على هواه، مثلما اكتشفت أن (بوش الابن) شيوعي، وابن بار للشيوعية، ولكنه تعجل في تطبيق النظام الشيوعي قبل أن تتوفر له الشروط الموضوعية، بدليل انه الغى
الحكومة والإعلام والجيش والشرطة والامن، وقد فاته اننا ما زلنا نعاني من ضعف حاد في وعي الجماهير وقوة البروليتاريا والضمير الجماعي!.