هل يحسم العقل كل الخلافات؟

آراء 2021/12/29
...

 صائب عبد الحميد
 
لماذا إذن يختلف العقلاء كثيرا في شتى الاتجاهات؟
هل كل ما نعتقده معقولا اليوم، سيظل لدينا معقولا الى الأبد؟ كم غيّرنا من قناعاتنا في قضايا اعتقدناها معقولة، ثم صرنا نراها غير معقولة قطعا؟، وعلى العكس كم غيّرنا مواقفنا من قضايا كانت غير معقولة، ثم أصبحنا نراها معقولة بلا شك؟
هل تقدم العقول وحدها دوما كل الحلول؟
ما نقرؤه عند المتكلمين، أتباع مدرسة العقل، من براهين على وجود الله تعالى، وعلى وحدانيته، هو في نظر أهل العرفان والتصوف حشو وملهاة. وفي ما يرى المتكلمون أن ما يذهب اليه أهل العرفان إنما هو الباطن وليس هو من العقل في شيء، يرى أهل العرفان أن هذا الباطن هو الوحيد المدعّم بالبرهان عن طريق الكشف والمشاهدة، ليصبح الباطن وفق هذا شيئا من سنخ المُشاهَد والمحسوس الذي ينتج اليقين، في حين يبقى البرهان العقلي في دائرة الإمكان التي لا ترقى الى مرتبة اليقين. 
أما الفلاسفة فلهم مسالكهم الأكثر تعقيدا ووعورة من مسالك المتكلمين، وأكثر بعدا عن مسالك أهل العرفان. 
لنختبر العقل من زاوية أخرى: حين وضع أرسطو سياسته المدنية، قسم الناس على أساس واقعهم الطبقي، فجعل حق التفكير وحق الحرية وحق العمل السياسي محصورة  بطبقة الأشراف والنبلاء، أما عامة الناس، والعبيد، والنساء، فهم تبع خاضعون ليس لهم الحق في شيء من ذلك. ولا ننسى أن أرسطو هو المعلم الأول في مدرسة العقل، وهو أبو المنطق. فهل يمكننا أن نرى اليوم أن هذا النتاج كان نتاجا عقليا صرفا؟، نتاج العقل الحر المحايد؟، أم كان محكوما بتوازنات زمانه ومكانه؟. 
كيف يشق العقل طريقه إذن إلى المعرفة؟. 
توزعت المدارس الفلسفية في هذا على مذاهب شتى، يبلغ التباين في بعضها حد التضاد التام، وكما يأتي. 
1 -  المذهب العقلي: الذي يرى العقل أداة للمعرفة، بل الاداة الرئيسة والاولى للمعرفة اليقينية، أو المعرفة الموثوق بها. والعقل عند اصحاب هذا المذهب هو موهبة فطرية يتساوى فيها كل الناس، وهو القسمة العادلة التي تساوي بين كل الناس بالفطرة.  ومن الثوابت الاساسية في المذهب العقلي أن هناك معارف وأفكارا ومبادئا فطرية توجد في العقل ابتداءً، ومن ثم هي معارف ومبادئ تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية. وأساس ذلك كله في المبادئ الفطرية الثلاثة: مبدأ الذاتية، مبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع. ثم أضاف لايبنتز مبدءاً رابعا أسماه: مبدأ السبب الكافي.
وأهمية هذه المبادئ تكمن في أن العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ومن دون الحاجة إلى أي مصدر خارجي.
والعقل عند أصحاب هذا الاتجاه لا حدود له، إذ بإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها، كوجود الله، وخلود النفس، وبداية العالم. والمعرفة هنا تتسم بسمة الضرورة، فهي قائمة على مبادئ ضرورية في العقل.
 -2 المذهب التجريبي: يقوم هذا المذهب على الحس بشكل مطلق، وينفي أصحاب هذا المذهب أي وجود للمعرفة الفطرية والمبادئ البديهية، ونظروا الى العقل كصفحة بيضاء لم تسبق اليها معرفة قبل التجربة الحسية، سواء كانت تجربة مباشرة أو غير مباشرة، داخلية نفسية، أو خارجية حسية.
  فهذا المذهب يرى ان العقل متأثر بالزمان والمكان، يتطور وينمو. والعقل ليس هبة يتساوى فيها الجميع، ولا هو مطلق قادر على معارف غير محدودة، بل هو محدود بحدود الواقع الحسي، فهو عاجز عن معرفة كل ما وراء الطبيعة. 
ويختصر جون لوك، زعيم هذا المذهب، حجته في أمرين:
•  "لو كان الناس يولدون وفي عقولهم أفكار فطرية لتساووا في المعرفة".
•  و {لو سألت الإنسان متى بدأ يعرف لأجابك متى بدأ يحس}.
ليخلص الى النتيجة التي أقام عليها مذهبه هذا: {ليس في العقل شيء لم يمر قبلا بالحواس}.
-3 المذهب النقدي:  وقف إيمانوئيل كانط أمام هذين المذهبين، فلاحظ أن كلا منهما يتجاهل بعض مصادر المعرفة أو يلغيه أصلا، فذهب الى الجمع بين الاثنين، وحدد ثلاث ملكات رئيسة في عملية انتاج المعرفة:
- ملكة الحساسية: و وظيفتها هي تلقي الانطباعات الحسية.
- ملكة الفهم: وتحتوي على المقولات القبلية، كتلك التي قال بها ديكارت، ووظيفتها هي تحويل وتنظيم المعطيات الحسية التجريبية لإنتاج معارف كلية وضرورية.
- ملكة العقل الخالص: وتحتوي على ثلاثة مبادئ متعالية، هي: الله، العالم، والنفس. ووظيفتها إعادة تحويل وتنظيم المعارف التي يحتوي عليها الفهم.
فهو يرى انه لا العقل وحده قادرا على انتاج المعرفة، ولا التجربة وحدها قادرة على ذلك، إنما لا بد من تضافر وتكامل بين العقل وبين التجربة لانتاج المعرفة. وبهذا يكون مصدر المعرفة هو التجربة والعقل معا، التجربة عن طريق عمل الحواس، والعقل عن طريق المقولات القبلية للفهم.
 فالمعرفة الصحيحة، وفق المذهب النقدي (ليست ضرورية بحتة، أي ليست بديهية او فطرية خالصة، ولا هي واقعية خالصة، إنما تتميز بالصفتين، الضرورة والواقعية، معا، إذ تستمد من العقل صفة الضرورة، بينما تستمد صفة الواقعية من التجربة. ومن دون ذلك لن تكون معرفة صحيحة موثوقا بها، فالمبادئ القبلية من دون حدوس حسية جوفاء وفارغة، والحدوس الحسية من دون مبادئ قبلية عمياء وغامضة.