ما بين الخير والشر

آراء 2021/12/29
...

  ميادة سفر
 
شكلت ثنائية الخير والشر واحدة من أكثر المواضيع إثارة للجدل، وأثارت الكثير من التساؤلات لدى الإنسان، ولا شكّ أن الجواب عن تلك التساؤلات أو ما تمخض عن الجدل حولها أتت مختلفة تحكمها البيئة والثقافة والوعي الفكري لدى المجتمعات، وفي أثناء البحث عن مقياس للخير والشر، ومحاولة إثبات أو نفي وجود قيم ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بمرور الزمن، توصل البعض إلى أنّ الخير والشر أمران نسبيان يحكمهما الزمان والمكان اللذان وجدا فيهما، ذلك أنّ عملاً معيناً قد يكون شراً عظيماً في مكان وزمان ما، يتحول إلى خير أو الى مسببٍ لخيرٍ في زمان ومكان آخرين.
أما فكرياً فقد شغل هذا الموضوع المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع وأحياناً رجال الدين، واستمر الصراع الفكري لعقود طويلة بشأن موقع الشر في النفس البشرية ومدى تجذره فيها، بدءاً من الفكر اللاهوتي الذي حمّل البشرية وزر ما اعتبره الخطيئة الأولى التي ارتكبها آدم وأدت إلى هبوطه إلى الأرض وفقاً للأسطورة المتداولة، وما المآسي والشرور التي تحدث إلا نتيجة لتلك الفعلة التي ارتكبها آدم، في إيحاء إلى أنّ الشر موجود لدى الإنسان وها هو اليوم يدفع ثمن خطأ ارتكب منذ بدء الخلق.
من جانب آخر اعتبر الفيلسوف اليوناني سقراط أنّ الأساس هو المعرفة والعلم، إذ كان يرى أنّ الإنسان يولد نقياً وعقله كصفحة بيضاء لا يكتنفها أي شر أو نزعة عدوانية، لكنّ الجهل هو ما يدفعه لارتكاب الأخطاء والشرور، فلا يمكن لأي شخص أن يرتكب الشر وهو يعلم انه يجلب الألم إلا إذا كان جاهلاً بما يقوم به.
يبدو أنّ تلك الأفكار التي قال بها سقراط سوف تتقاطع بعد مئات السنين مع ما توصلت إليه المفكرة الألمانية حنة آرندت بعد متابعتها وقائع محاكمة الضابط الألماني إيخمان عن الجرائم التي ارتكبتها النازية بحق اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ لاحظت أنه ركز أثناء دفاعه بشكل متكرر على عبارة "كنت أنفذ الأوامر" أي أنّ أفعاله لا تعدو كونها تنفيذاً لأوامر رؤسائه من دون أن يمتلك حق الرفض، وهو ما ستطلق عليه آرندت "تفاهة الشر"، إذ إنّ ما قام به إيخمان لم ينبع من دوافع شريرة لديه، ولا كره تجاه اليهود، كان يقوم بعمل طلب منه لا أكثر، وهذا ما يحيلنا إلى دور السلطة أياً تكن في حمل الإنسان على ارتكاب الشر.
إننا اليوم نعيش في عالم ازداد فيه العنف، كثرت الحروب وانتشر القتل بشكل مرعب لا سيما ضد الفئات المستضعفة من نساء تغتصب وتقتل وأطفال تستخدم قنابل موقوتة وتحمل أحزمة ناسفة، إلى رجال يقتلون طمعاً بعوالم غيبيَّة، يبدو أن لا شيء تغير منذ بدأ الإنسان يحبو على هذه الأرض، إذ يجبرنا الواقع على ممارسة الشر كل من حيزه الخاص، ما يجعلنا جميعاً منصهرين في أتون الشر الذي وصفته آرندت بالتافه.
يبدو أنّ وجودنا بات مهدداً في عالم عبثي مرعب، ينتج كل تلك الأيديولوجيات المتحاربة التي بات شغلها الشاغل إقصاء الآخر وقتله. ولا سبيل أمامنا للخروج سالمين إلا بالاستثمار بالمعرفة وزيادة الوعي، وتشكيل هوية تعبر عن ذاتنا الإنسانية التي لا بدّ فطرت على خير ما.