تريستان تزارا: أينبغي إطلاق النار على الدادائيين؟

ثقافة 2022/01/04
...

  إسكندر حبش (*)
 
«النظام الأكثر قبولا
هو، من حيث المبدأ،
عدم وجود أي نظام»
تريستان تزارا
 حدث ذلك في أحد المسارح الباريسية. الصالة مليئة بأناس «محترمين» ينتمون إلى الطبقات العليا: «كونتيسات»، «ماركيزات»، نساء مجتمع جميلات، كتّاب على «الموضة»، أصابتهم الشهرة والمجد وعرفوا حضورا مميزا في ذلك المجتمع: أندريه بروتون، جان كوكتو، لوي أراغون؛ الجميع كانوا هناك، أي كل من عرف حضورا في باريس ما بعد الحرب العالمية الأولى
أما فوق الخشبة فكانت الضجة والألعاب الصاخبة، فجأة يظهر رجل صغير. كان مليئا بالحيوية، ويضرب بقوة على صندوق يحمله، يرقص وهو يقهقه مثل الدببة. على رأسه قسطل ويتهادى داخل كيس كبير. أطلق على هذا «التمرين» الذي قدمه اسم «كاكادو السوداء». ثمة من اعترض على ذلك لينددوا بهذه الفضيحة. آخرون راقهم الأمر واعتبروا زملاءهم بأنهم من أصحاب الذهن البليد. استحسن بروتون الأمر، أما جان كوكتو فقد أدخله العرض في حالة جذلى من الابتهاج. إذ كان مستعدا لتقبل كلّ أنواع التحريض، ذاك الذي سبق له أن أعلن عن «معارضة كل أنواع المواهب الكونية لسيلان الشمس الأبيض، الفاسدة، الخارجة من مصانع الفكر الفلسفي، والنضال العنيف ضد كل وسائل التقزز الدادائي».
 بعد انتهاء العرض، عاد «الإعصار» الصغير الذي كان يدعى تريستان تزارا ليرتدي ملابسه: طقم من ثلاث قطع، ربطة عنق على شكل فراشة (بابيون)، نظارته الأحادية الزجاجة (المونوكل). لم يشعر بالخوف أبدا، حين قبّل أيدي السيدات المتواجدات في الاستقبال الصغير الذي أقيم عند الانتهاء من هذا «الحفل».
على الرغم من ذلك كل، حين ولد صموئيل روزينستوك في السادس عشر من نيسان العام 1896 في «موانيستي»، في إقليم «باكاو»، ما من شيء كان ينذر بأن ابن هذه الأسرة البورجوازية الرومانية سيصبح ذات يوم «مرتل» هذا التدمير العنيف. كان والداه في ذلك الوقت يديران شركة لاستثمار النفط، وتعرف ازدهارا ملحوظا، بينما كان هو، طالبا مثاليا. بيد أنه، ومنذ أن كان في الثانوية، أصبح يهتم بالشعر: في السادسة عشرة من عمره، أنشأ مع زملائه، مجلة تحمل اسم «سامبولول».   في العام التالي، أطلق، هذا «الفاغنري» (نسبة إلى فاغنر) المتحمس، على نفسه اسم «تريستان تزارا»، وفي العام 1915، قايض اسمه باسم تزارا (الأرض باللغة الرومانية) بشكل نهائي. وسرعان ما شعر بالاختناق في موطنه، ليرحل العام 1916 إلى مدينة زوريخ. كانت الأراضي الهيللفيتية (السويسرية)، في ذلك الوقت، تشكل مكان «استدلال» وتجمع لكل الهاربين من خدمتهم العسكرية. إذ بينما كان «الأبطال» يتذابحون على جبهة «فردان»، كانت هذه الكوكبة الصغيرة اللاجئة في تلك البلاد تعيد صوغ حلم العالم في ظلال الجبال السويسرية. استأجر تزارا وبطانيته علبة ليلية قديمة ليؤسسا فيها «مركزا للمنوعات الفنيّة»، أطلقا عليه اسم «كاباريه فولتير». ما بين الخدعة والشعر الحيّ والمقهى المسرح، جاءت عروضهم ذات طبيعة مختلفة عن السائد والمتعارف عليه، ما أدهش الانتلجنسيا المحلية، وبخاصة أنها كانت التطبيق العملي للمجلة التي أسست العام 1916 والتي كانت تحمل عنوان «دادا». السمات العامة لهذه العروض/ المجلة، كانت تتمثل في النداء الحثيث للتدمير، في رفض كل أنواع الميراث، إلى السخرية الكونية. بسرعة غير متوقعة، بدت هذه المدرسة المؤسسة على «المزاح» العدمي، أشبه بكرة ثلج، تأخذ في طريقها كل شيء. لقد رغب الجميع في التعرف على تزارا هذا: حتى لينين جاء إلى «كاباريه فولتير» ليلعب معه الشطرنج، بينما كانت فرنسا تناديه «بصرخات كبيرة عالية» كي يأتي ويحيا فيها. بعد اتصالات عديدة عبر الرسائل المتبادلة مع غيوم أبولينير (الذي مات قبل أن يلتقيا) وماكس جاكوب وأندريه بروتون، وبعد دعوة من صديقه بيكابيا، وصل تزارا إلى فرنسا أخيرا: «قبل أن يرحل تزارا إلى باريس، تأسست بالفعل حركة دادائية اجتماعية، هي نوع من حشرية أنيقة، حاورها كوكتو مطولا»، هذا ما يشرحه فرانسوا بوو، في أول سيرة متماسكة (برأيي)، تكتب عن تريستان تزارا.
ما إن وصل تزارا إلى باريس، حتى بدأ الكرنفال. واكبه كلّ من بروتون وأراغون اللذين رافقاه كظله (واللذين دهشا بخجله وتردده و ... بلهجته الرومانية)، هناك بدأ بتنظيم «العروض التحريضية»، وقد وصف تلك الفترة، فيما بعد، بالقول: «كنت أظن أننا أصبحنا عند المجانين، وكانت رياح الجنون تهبّ في الصالة كما فوق خشبة المسرح». بدا تريستان تزارا أشبه بإله: تناهشه الجميع، سخروا منه، جعلوه مثالا عشقوه. كل التناقضات كانت موجودة.
غداة العرض الأول لمسرحية «مغامرة السيد أنتيبيرين السماوية الأولى» كتبت «مجلة العصر» عنوانها الرئيسي على الشكل الآتي: «أينبغي إطلاق النار على الدادائيين»، لكن على الرغم من ذلك، استمرت العروض لأشهر عديدة، مثلما استمرت الحفلات التي غالبا ما انتهت بالعراك، أضف إلى ذلك «ليالي الفجور» في المواخير الباريسية، وافتتاح صالة للأعمال
 التشكيلية. كانت «غايا» و»لو سيرتا» و» الثور على السطح» و»لودوم» هي أمكنة الجنون الثقافي الباريسي في تلك الحقبة. وفي موازاة ذلك، لم يتوقف تزارا عن نشر القصائد والمقالات، كذلك نشر رواية متسلسلة على حلقات، أما أصدقاؤه فهم «مان راي» و»ماكس إرنست» و»برانكوزي» و»رينيه كروفيل».
 لكن، وعلى الرغم من هذه الانسيابية التي عرفتها الحياة الثقافية لم يستطع هذا العدمي الراديكالي إلا أن يصطدم مع المنظر بروتون. كان يرغب في تدمير كل شيء، بينما يريد بروتون إعادة بناء كلّ شيء. كان الأول بمثابة إعصار يرغب في اجتياح كل شيء، بينما الثاني لم يزد عن شخص عقائدي. بدا الامر أشبه بصراع بين قائدين. من هنا، حين أقام أندريه بروتون محاكمته الأدبية لموريس باريس، رفض تزارا أن ينحاز لأي طرف منهما. بدءا من تلك اللحظة، بدأت حرب منظمة بين الرجلين، شهدت بالتأكيد العديد من فترات الهدنة، استمرت لمدة أربعين سنة.
تجول تزارا في أوروبا. رحلته هذه جعلته يتيقن من المأزق التي عرفته «دادا» في إيطاليا (إيفولا) وألمانيا (شفايتزر) في بلجيكا... يلتقي بطالبة سويدية تدعى غريتا، فيتزوجها، ويطلب من مهندس يدعى أدولف لووس أن يبني له عمارة في منطقة «مونمارتر». يولد ابنه الأول في العام 1927. وبالرغم من نجاحه الاجتماعي، بدأ تزارا يشعر بالتعب والملل. بدأت الاحتجاجات ضده تكثر شيئا فشيئا. أصبح الهدف الدائم لمن أطلق عليهم اسم «السورياليين». عدا أندريه بروتون، أصبح تزارا هدف كاتب آخر: ميشال ليريس، الذي لم يخف حقيقة كلماته: «لتعلم بأن هذه الطفيلية الأدبية التي أنت عليها لا تستحق أن تلحس برازي».
اقترب «الأعداء» ومنهم من انتسب إلى الدادائية من الحزب الشيوعي الفرنسي، عقب أحداث شباط العام 1934. أما فترة الحرب والاحتلال النازي لفرنسا، فقد شكلت له فترة صعبة. بعد التحاقه بالمنطقة الحرة، تنقل من مكان إلى آخر: سان تروبيه، اكس، تولوز (حيث انتسب إلى المقاومة الجنوبية الغربية واكتشف فيها التاريخ الأوكسيتاني).
 بعد انتهاء الحرب أصبح تزارا عضوا في «المركز الوطني للأبحاث»، ومع ذلك لم يجد موقعه الفعلي والحقيقي في دنيا الأدب. في العام 1947، كان السبب المباشر في «عراك حقيقي في جامعة السوربون» إثر محاضرة ألقاها هناك بعنوان «السوريالية وما بعد الحرب». ربما كانت مناسبة لأن يصفي حساباته، للمرة الأخيرة، مع بروتون. اتهمه بأنه تهرب من مسؤولياته حين نقل هذه المعركة إلى نيويورك، كلام أغضب بروتون، إلا أن الأخير لم يجادله، وكأن زمن المعارك صار ينتمي إلى عصر آخر. لقد أصبحت الدادائية كما السوريالية في طور الاحتضار.
   لقد تغيّر الزمن. جاء عصر بدا فيه تزارا شخصا مجهولا من قبل الجميع. تخلى عن نظارته الأحادية الزجاجة ليضع نظارتين سميكتين. افترق عن غريتا منذ وقت طويل، وبقي يعيش في منزله محاطا بكتبه وبالأقنعة الافريقية. ابتعد عن الحزب الشيوعي بعد أحداث المجر، ليتفرغ إلى دراسة أعمال «فيّون» و»
رابليه».
  لم يثر خبر موته في 24 كانون الثاني العام 1963 أحدا، إذ كان الجميع يعتقدون أنه توفي منذ زمن طويل. لقد قتل تريستان تزارا صموئيل روزنتسوك. فالمرء لا يعش شبابه طيلة عمره.
(كاتب لبناني)