اللسانيات والكذب

ثقافة 2022/01/05
...

 خالد خليل هويدي
 
قد يجد القارئ غرابة في عتبة المقال، غير أنّ هذه الغرابة ربما تتبدّد حينما يعرف بأنّ مبحث الكذب قد تمّت قراءته لسانيا، بعد أن عُرض له تاريخيًا وفلسفيًا ودينيًا. 
تمكّن الباحث الألماني هرالد فاينرش من قراءة الكذب من وجهة نظر لسانية، وذلك في كتابه «اللسانيات والكذب»، الذي صدر عن دار كنوز المعرفة، تحت عنوان «اللغة والكذب»، وقد ترجمه عن الألمانية الباحث التونسي عبد الرزاق 
بنور.
يحاول هذا الكتاب الوقوف على الكذب، من طريق تحديد الآليات اللغوية والبلاغية التي يتمظهر من طريقها. 
وتعدّ دراسة فاينرش من أولى الدراسات الحديثة التي عالجت الكذب على وفق هذا المنظور اللغوي، ولم يكن من وكد الدراسة إصدار أحكام معيارية أخلاقية بشأنه، وكان كتابه هذا فتحًا لكتابات جاءت بعده، مثل كتاب «الكذب واللسانيات، أبحاث تداولية لسانية- تصريحات الرؤساء أنموذجا» الصادر باللغة الألمانية. 
ولمّا كان الإنسان يقول كلامًا غير حقيقي من خلال اللغة، من طريق توظيفها في تحقيق الكذب، وهي أيضا التي مكّنته من إخفاء حقيقة أفكاره ومشاعره؛ لذلك يجب قيام لسانيات للكذب تحاول بيان علاماته لغويًا. 
والسؤال الجوهري الذي هو سؤال الكتاب، في أيّ مستوى لساني يتمظهر الكذب؟.
هل يظهر في الدلالة أو التركيب أو التداولية؟، بمعنى هل يتجلّى الكذب في الكلمة أو الجملة أو النص باستعماله؟، وهل يكذب الإنسان بالكلمات أو بالجمل أو بالنصوص؟. 
يرى فاينرش أن الكذب يتجلّى أكثر بالكلمات، لأنها مفردة وبعيدة عن السياق وغامضة وفضفاضة، ولا تحدد إلا من طريق الجمل والنصوص في مستواها التداولي الاستعمالي.
إن الكلمة في حال كونها مفردة ومعزولة، تكون عرضة لإمكانات استعمالية كبيرة ومتعددة أيضًا، ومن ثمّ قدرة سيميائية عالية، فكلما كانت الإمكانات الاستعمالية عالية وكبيرة اختفى المقصد تحت ركام الاحتمالات المتعددة، وهنا يتمظهر الكذب، ذلك أن الكلمات المعزولة كلمات وهمية، ووحدها الكلمات في النص كلمات حقيقية.
ويطرح الكتاب سؤالا جوهريًا يتمثّل بالكيفية التي تعبّر فيها اللغة عن الفكر؟ وكيف أن اللغة تخفي الأفكار، فغالبًا ما يقول الإنسان باللغة غير الحقيقة، فيفتري وينافق ويضلل أيضًا. 
إن اللغة لم توهَب للإنسان لكي يستعملها في خداع الناس، بل ليقاسمهم أفكاره، وكل من يستخدم اللغة للتضليل والخداع إنما يسيء استخدامها، وتلك تعدّ من الخطايا بحسب غوته. 
من أجل ذلك عرض توماس الأكويني فكرة مفادها أن ألفاظ اللغة هي علامات الفكر، وأن توظيفها في خدمة الكذب هو انحراف عن سمتها ومجاف لجوهرها. 
ويبدو أن اللغة مثل أي اختراع يمكن توظيفه بطرق مختلفة، إذ يمكن استعمال علاماتها في الشر وفي الخير أيضًا.  
إن اقتران الشعر بالكذب قضية كلية بحسب تصورات تشومسكي، لذلك نجد فاينريش يخصص مبحثا عنوانه «ما أكذب الشعراء!»، وينقل جملة منسوبة إلى هوميروس، يقول فيها: «بكل تأكيد، الشعراء يكذبون كثيرًا»، وكان نيتشه يرى في الشاعر أخًا في الرضاعة للكذّاب.
ويبدو أن الكذب لم يكن يمثّل إشكالًا زمن هوميروس، فقد كان إتقانه علامة على العبقرية، لذلك رأى أرسطو أن هوميروس علّم الشعراء كيف يجيدون الكذب، وهو ما يشير إلى أن الكذب لم يكن عيبًا، فمنه الجيّد ومنه الرديء. 
ويبدو أن الشعر والكذب مقترنان، وهي قضية كلية كما تقدّم، تتشاركها الحضارات المختلفة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، في سورة الشعراء، فضلًا عن أن النقد العربي قد عالج ذلك، تحت عنوان «أعذب الشعر أكذبه»، كما يقول قدامة بن جعفر في كتابه «نقد الشعر». 
وشملت معالجة الكذب لسانيا البلاغةَ، بوصفها طريقة خاصة في أداء الكلام؛ لذلك خصّص مبحثين تناول فيهما المجاز والسخرية، بوصفهما آليات من آليات الكذب. 
وفي محاولة التأصيل لدراسة الكذب لغويًا يشير المترجم إلى أن أولى المحاولات كانت مع الفيلسوف أوغطينيوس، الذي رأى أن الكذب محايثٌ للغة، ويوجد بوجودها، وأن مسألة الكذب قضية لسانية إلى جانب كونها قضية أخلاقية وفلسفية، ورأى في النهاية أن الإنسان حيوان كاذب!.
أما على صعيد الدراسات اللغوية العربية، قديمها وحديثها فلا توجد معالجة لسانية للكذب، على الرغم من أن تاريخنا وحاضرنا حافلان بألوان مختلفة من الكذب والتضليل والنفاق، الذي جرى تحقيقه من خلال اللغة.