المفكر والشعبوي

آراء 2022/01/05
...

  رعد أطياف
 
التحدي الأكبر الذي يواجهنا هو كيفية التمييز بين ما هو إسقاط وما هو واقع!، ذلك أن الإسقاط أكبر من الواقع بكثير.
فمن هنا نفهم قلّة المفكرين وكثرة مطلقي الأحكام. 
إن التفكير عملية شديدة التعقيد وتحتاج إلى صبر وجَلَدٍ كبيرين، فإبداع المفاهيم وتحليل الواقع، وخلق إمكانات جديدة للحياة، أمر بعيد المنال لمطلقي الأحكام. 
 لذلك، الفئة الأولى تعمل جاهدة لفهم الواقع كما هو مستعينة بمفاهيم تجدد نفسها بين الحين والآخر، والفئة الثانية تصاب بالنفور، والعدائية، وتحشّد أكبر قدر ممكن من التبريرات لإبقاء الوضع كما هو عليه، وهي عادة ما توهب كل طاقاتها الحماسية بالمجان لكل أشكال السلطة، ليس لشيء سوى ضمان ديمومتها، والحفاظ على وجودها المزيّف. 
ولغَلَبَة القوّة الشعبوية القائمة على الغرائز والانفعالات واللاعقلانية، يضمر دور التفكير الحر لفهم مسارات التاريخ وتحليل الواقع بموضوعية عالية. 
ثمّة ظاهرة مثيرة للجدل ينفرد فيها المجتمع العراقي بشكل عام، وهي نفوره الشديد من المثقف، ربما لأسباب أيديولوجية رافقت المثقف العراقي وشدة التصاقه الحزبي في العقود الثلاثة المنصرمة جعلت منه موضوعاً للتندر والسخرية.
لكن هذا لا يغير من الموضوع شيئًا ولا يجعل منه مبرراً لتشجيع 
الشعبوية.
مهما يكن الأمر، وسواء كانت هذه الظاهرة لها مبرراتها أم لا، يصاب المثقف، أياً كان، بالنفور الشديد من النقاط المرجعية الثابتة، لذلك يسعى دائماً لإبداع مفاهيم تتبصر هذا الواقع السيّال والمتحرك بسرعة، ويصاب الشعبويون بالنفور من التجديد؛ فكل شيء لديهم ثابت لا يتحرك، وما الواقع عندهم سوى صورة فوتوغرافية جامدة.
 إن التغيير يعني تهديدا لوجودهم، ذلك أن العادات أضحت جزءاً لا يتجزأ من هوياتهم، فالتغيير يساوي التهديد من منظورهم؛ لذلك لا نستغرب من هذه المفاضلات الغريبة التي يجريها الشعبويون بين الجانب المؤسسي والجانب الشخصي، فيختارون الأخير مفضّلينه على المؤسسة، فهذه الأخيرة تعني حرمانهم من رأسمالهم الوحيد: الجهل!.
حينما يغيب المفكر الملهم يتسيد الشعبويون كما الزومبي: ينشر العدوى للآخرين بعضّة واحدة، فبدل الزومبي الواحد يتحولون إلى عشرات، فسرعان ما ينتشر الوباء كالنار في الهشيم، ويغدو الناس نسخاً متشابهة تردد ذات المحفوظة عن ظهر قلب.
ويتفشى التكرار ويغيب الاختلاف ويغدو المجتمع مقبرة كبيرة للعقول المبدعة.
المفكرون أفراد قلائل، لكنّهم خالدون في التاريخ، على عكس الجهلاء فإنهم يموتون بسرعة قياسية!.
بينما ما زلنا نقرأ لسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم.
ويحضرني هنا قول علي ابن أبي طالب "العلماء باقون ما بقي الدهر..". يا ليتنا كنّا معهم!.