عبد الهادي مهودر
اختفى الحرفيون الذين يطوعون المعدن الأصفر عدا بقايا طَرَقات خجولة تسمع هنا وهناك في خطوط الدفاع الأخيرة عن هذه المهنة المتوارثة منذ قرون، والتي تموت اليوم بصمت بعد ذاك الضجيج، ولم تعد هناك مخاوف على اندثار سوق الصفافير ، فقد اندثر فعلياً وتوقفت سمفونية الطَرق على النحاس، ولا يدل عليه إلا عنوانه وموقعه الجغرافي وأصبح بحاجة لتبديل اسمه الى
سوق الأقمشة والطباخات وموادها الاحتياطية او الصفافير سابقاً، فهو اليوم سوق لتصريف النحاسيات الصينية المنشأ بأسعارها الواطئة، التي أذلّت الصفارين العراقيين المهَرة في عقر ديارهم وفرضت عليهم الاقامة الجبرية في منازلهم، شيخ كبير من (الاسطوات) القدامى في طرف السوق يصارع وحيداً، من أجل البقاء بمطرقته الصغيرة، لكنّه بات غريباً على المكان، هنا تذكّرت ما قاله الصديق الكاتب علي الزبيدي عن بعض محال بيع الذهب في الكاظمية، التي تحولت الى بيع (حلاوة اللوزينة) وأسباب هجرة بعض الصاغة لمدينتهم، بحثاً عن أسواق مفتوحة ومناطق يسهل دخول المواطنين اليها.
لا نناشد أحداً لإنقاذ هذا الجانب الشهير من بغداد، فقد سبقتني المناشدات الى من يعنيهم الامر ومكاتبهم ولجانهم، وهم أدرى بقصة الأمس واليوم في سوق الصفافير وغيره ويرون علامات الاندثار والمرض والموت على الاسواق التراثية، ليس من داعٍ للمناشدات التي تعيد اسطوانة أوعز ووجه وأكّد وشدّد، ثم تفقّد السوق الفقيد وأعرب عن حزنه على فقده وعن عزمه وتصميمه على انقاذه، ضمن حملات التأهيل التي سمع بها العراقيون قبل (طگة بوش) وبعدها.
الكرة دوماً في ملعب المسؤولين عن بغداد ولا ذنب للصفارين باندثار سوقهم، ولا لصاغة الذهب في تبعثر
اسواقهم، والعلة في تعوّد المسؤولين على المناشدات والتنبيهات التي تشبه الطَرق، واذا كان هناك ذنب او (صوج) فهو ذنب المواطنين الذين عودوا المسؤولين على المناشدات، حتى ينهضوا من جديد، وواقع الحال أن المسؤولين عن بغداد لا حديث لهم عن إعمارها وتحديث بناها التحتية وشبكات مجاريها واكتفوا بالبنى
الفوفية.
وبالتأكيد هذا أفضل من لا شيء، لكنّه يعني أن بغداد تراوح مكانها ولا تستحدث فيها مشاريع خدمية او عمرانية، غير ترميم القديم وتلميع ما يمكن تلميعه، ومع ذلك تنتظر أسواق بغداد العريقة مبادرة للحفاظ عليها كمهن ومعالم تراثية وسياحية وتجارية، لأنها ارتبطت بتاريخ المدينة وحكاياتها وأمثالها الشعبيَّة التي لم تعد تصلح لسوق الذهب ولا لسوق الصفافير، وأصبحنا بحاجة الى تفعيل الأمثال الشعبية في أقل تقدير.