تساؤلات المرأة في الإرث الديني عند شوقي بزيع

ثقافة 2022/01/16
...

 موج يوسف 
أفلاطون لم يتوان في جمهوريته عندما طرد المرأة والشاعر منها، فهذا الأخير احتضنها منذ تلك اللحظة إلى يومنا، وصارت جسد القصيدة في الإلهام والعاطفة، وقلما نجد صوتها يعلو بحرية في قصيدة الشاعر، ويبوح صوتها بالمسكوت عنه، وما تخفيه خلجاتها النفسية. 
 
لكنّ قصيدة «مريم» للشاعر العربي شوقي بزيع في ديوانه المعنون باسم النساء (كأني غريبك بين النساء)، تكشفُ القصيدة عن المرأة الواقعة بين لهب (العفاف والخطيئة)، تُبرّؤها السّماء من خطيئة العالمين تارة، وتكفرها الأرض أخرى. 
الشاعر شوقي بزيع استهلم الموروث الديني بقصيدة مريم، لكنّه انزاح من التناص معه، إذ جعلها موضع تساؤلات للمرأة على لسان مريم القديسة أم المسيح، وكانت بتساؤلاتها فداءً عن باقي النساء اللواتي يعريّهن مجتمعهن من الفضيلة، ويلبسهن ثوب الدنس، ويعلق على صدورهن كلّ ذنوب الآخرين ويجبرهن أن يصرن ماساً نقياً. وهذه أبشع ازدواجية تعيشها المرأة على مرّ الأزمان، فالشاعر بهذه القصيدة قد غيّب صوته وأخفى ضمير المتكلم المذكر وأفسح مجالاً لصوت المرأة وأعطى حركية الأفعال لبطلة القصيدة فيقول في مطلع القصيدة: 
 
تنأى الوساسُ بي 
وتودعُني السماءُ رفاتَ نُطفتِها 
وتنكِرُني الغيومُ 
وحدي على الصحراء جاثيةٌ، 
أضمُّ يدي إلى صدري 
وأُفرِدُها أمام الرملِ ثانيةً 
فتندلعُ النجومُ 
وأرى دمي سُحباً 
تطوفُ به ملائكة على الموتى.
 
القلق والخوف يفيض من أثنى النصّ، عبر اللغة المشحونة بأفعال الخوف، والمشاهد المرئية التي تجمّعت، وكوّنتْ فيلماً شعرياً عن المرأة خطيئة. يبدأ المشهد من بثّ السماء نطفتها داخل الرحم وينتهي بالولادة التي استعار الشاعر عنها لفظ الدم، وبين الحمل والولادة مسافة تعيش فيها بقعر الجبّ، تتآكلُ من الخوف، والوحدة، والعجز، وغياب الأمل، وهذه الأحاسيس نقلها الشاعر بجملة من الصور (تنكرني الغيوم، وحدي على الصحراء جاثية، اضم يدي إلى صدري) نقل إلينا شعوراً افتراضياً لمريم، وبالمقابل ليس خاصاً بها، بل يشمل جميع النساء اللاتي يعشن وفق قانون البشر الذي يرى أنّهن ولدن من رحم الخطيئة الأولى. وكلّ أنثى تدفع ضريبة أخطاء لم ترتكبها.
إن إعلاءَ صوت المرأة لم يخلقه الشاعر بزيع من قبيل المصادفة؛ لبث روح الأنثى في الأبيات عبر لغتها، وتساؤلاتها فيقول: 
ماذا فعلتُ لكي تسمّرني الرمالُ 
 
على صليب شكوكها 
فيكون لي ولدٌ ولم يمسسْ دمي بشرٌ 
وأيَّ خطيئةٍ صنعتْ يداي 
لكي تنصّبني على الهموم أٌمّاً على الأحزان 
 
العقاب يأتي بعد الخطيئة هكذا هي العدالة، لكن هنا العكس وقعت في صليب الشكوك الدائم واستعان الشاعر بالفعل (تسمّرني) للدلالة على ثبوت الشكّ بخطيئة المرأة من دون أن تفعلها. فهذا التساؤل ما هو إلا صرخة بوجه هذه الادّعاءات الكاذبة بحقها. ويفتحُ منه باب آخر لتساؤل أشد: (فيكون لي ولد ولم يمسس دمي بشر) وهو تناص من الآية القرآنية ايضاً، والجواب المعتاد القدرة والمعجزة الربانية اختارت مريم لتكون أم النبي اليسوع، فهل كانت هي فرحة بهذا التكريم؟ يأتي الجواب من الشاعر: بأنها أمّ الأحزان صارت. وهذا يدعونا للتساؤل لِمَ لَمْ تُختر المرأةُ نبيّة؟ ولِمَ كانت أمّاً للأنبياء حملت وولدت نبياً؟ أهذا دورها الإنجاب؟ وما فائدة الجنة تحت قدميها والقلبُ جحيمٌ؟! تتناسلُ الأسئلةُ والهموم حتى تولد قوة الأنثى، فيقول:
 
 لم يبقَ من اليأس ما يفضي إلى امرأةٍ 
ولا نوديتُ من أحد سوى الأشباح 
كي ألتفَّ حول جناح أسئلتي 
 ولكنني لكثرة ما انحنيتُ 
 توكّأتْ روحي عليّ 
فملتُ نحو الدمع حتى صار فاكهة النساء 
 
وصار مجدي، كلّ مجدي أنني أهبُ الخليقةُ ما تهزّ به نخيل الروح بعدي. 
النصّ يعيد المرأة إلى مجدها وقوتها (توكّأت روحي عليّ)، لتكون واهبة الروح للخليقة فهل عبر الولادة؟ البيت الأخير على لسانها (كل مجدي أنني أهب الخليقة ما تهزّ به نخيل الروح بعدي) لفظة بعدي اخرجت المرأة من الولادة والحمل، ونقرت على ما هو أهم الفكرة، فكرة الخالق الواهب أنثى؟ ربما هذا التساؤل الذي لا توجد له إجابة قطعية، وهو ما يضمره الشاعر في نصه. الشاعر يستمر بمقارعة المتلقي بتساؤلات مريم، يقول: 
 
وتحيلني أُمّاً، فما ذنبي إذن! 
لتعلّق الدنيا خطيئتها على امرأة بمفردها 
وتدفع من أنوثتها الثمن 
ما ذنب مريمَ 
 
أن تُحمّلَ مرتين جريمةً لم ترتكبها 
ما ذنبها أن يكون اللهُ والإنسانُ 
مختلفين حول طبيعة التفاح 
هي لم تُخيَّرْ بين عفتها وشهوتها 
لتختار الصليب بل الإله اختارها 
لتكون مختبر الألوهة في تجسّدها 
وأولدَها إلهاً آخراً لتصير أم الله وابنه وزوجته. 
 
نلحظ في النصّ الصيغ اللغوية والتي خرجت من رَحِم الأنثى، وولدت أفكاراً تقارعُ بها فكرَ المؤسسة الذكروية الذي عدّ الأنثى أساس الخطيئة، من أُمّنا حواء التي ألصقوا بها تهمة الغواية، وكانت هي المسؤولة عن إغواء آدم وخروجه من الجنة. جاءت مريم لتحمل ذنبين لم ترتكبهما (ذنب حواء، والحمل بالمسيح).
فجاء الاعتراض (ما ذنب مريم أن تحمّل مرتين جريمة لم ترتكبها) وكأنَّ البيتَ اعتراضٌ من الشاعر الذي استعاد صوته ونادى بمظلومية مريم، هكذا يظّن القارئ، لكنّ مريم ظّل صوتها بنفس الإيقاع فنادت باسمها بالذنوب التي لم ترتكبها لا سيما أنها لم تكن مخيّرةً، وكانت مسلوبة الإرادة.
ويمكن عدّها هنا قناعاً عن باقي النساء اللواتي اختارهن القدر؛ ليعلقهن على مشانق الخطيئة بلا مبالاة لإرادتهن،
وهذا ما رفضته وأفصحت عنه (تحيلني، تدفع، ذنب، لم ترتكبها، لم تخيّر) وهذه الألفاظ مشحونة بانفعال نفسي صاحبته المرأة فوضع الموروث الديني في محل التساؤل. قصيدة مريم كشفت عن قراءة الشاعر للموروث الديني ووضعه محل تساؤلات بلا أجوبة، واستحضار اللغة المؤنثة وضميرها وأفكارها.