{أن تُصبح كوستو}.. ذاكرةٌ لأعماق البحر والإنسان

الصفحة الاخيرة 2022/01/17
...

  علي الياسري
بين براءة الطفولة ودهشة الاستكشاف انعكست تلك اللمعة المبتهجة من حدقات جاك كوستو الى عيوننا نحن المتسمرين امام شاشات التلفزيون، نرقب حلقات برنامجه الوثائقي (عالم الأعماق) اذ تمخر سفينته الايقونية كاليبسو عباب البحر وتسجل فتوحات تاريخية لعوالم مجهولة تحت سطح الماء، كان الفرنسي وطاقمه "فرسان المحيطات" رواد حقيقيين يطؤون مناطق ظلت معتمة على البشر طيلة وجودهم على هذا الكوكب قبل أن ينزلوا لسبر غورها السحيق والتماس مع كائناتها.
 على مدار خمس سنوات قامت المخرجة الوثائقية ليز غاربوس والتي عرفناها من خلال بعض أفلامها المميزة مثل (ماذا حدث آنسة سيمون؟) بجمع مادة مصورة أرشيفية نادرة ولم يسبق أن تم عرضها تقدم الكثير عن حياة عالم البحار والمستكشف وصانع الأفلام الوثائقية والمخترع والمدافع عن البيئة والمناخ جاك إيف كوستو، صاحب القبعة الحمراء الذي حبس أنفاسنا صغارا وكبارا طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات حين كنا نترقب وقائع رحلات السفينة كاليبسو وانعكاسات مزاج البحر عليه، وطاقمه لم يدخر جهداً في ابتكار المعدات التي تسهل على الانسان الولوج لعالم كائنات الماء فكان أن اخترع برفقة والد زوجته الاولى ما أصبح لاحقا عدة التنفس للغواص، مع انبهاره بالحياة التي اكتشفها سيعمد الى تصنيع كاميرا تعمل تحت الماء خصوصا وهو المولع بالسينما، فكان نتاج ذلك فيلم (العالم الصامت) انتاج 1956 اخرجه بالاشتراك مع المخرج الفرنسي المعروف لوي مال. اهلته الصور السينمائية المدهشة التي تضمنها وذلك الرصد للحياة المائية الى نيل السعفة الذهبية لمهرجان "كان" السينمائي وجائزة الاوسكار لأفضل فيلم وثائقي، كان يرى أن ما يصنعه من أفلام هي أقرب للدراما والحركة منها للتسجيلية. 
لا تُخفي المخرجة غاربوس اعجابها بالمنجز الذي حققه كوستو، فتقدم التقدير له لكنها تحاول محاكاة نهج المستكشف الفرنسي بالاقتراب بحذر من حياته الشخصية وتقديمها بكثافة طيلة زمن الفيلم، فكان أن ظلت عوالم الأعماق ملكاً لتسجيلات كوستو بينما شكلت تلك اللقطات التي على سطح كاليبسو او اثناء التحضيرات والاستعدادات للرحلات وما تتضمنه من سرد للمعوقات والمشكلات التي اعترضت عملهم مسرح رؤية الصانعة ومنها مثلا نعرف أن حاجته للتمويل دفعته للمساهمة في التنقيب عن النفط في مياه الخليج العربي، وكان أول من اكتشف وجوده، كما أن طغيان هوسه بعوالم الماء وكائناته أثر كثيرا في حياة ابنائه وحتى زوجته الذين قضوا الكثير من الوقت على ظهر السفينة يرافقونه بعيدا عن حياة مستقرة على البر، فلم ترفعه لمستوى الاسطورة رغم ريادته التي لا غبار عليها، بل سعت الى تناول الجانب الانساني المعتم من حياته بالتوازي مع صورة عن تراكمات الخبرة البيئية والتي دفعته ليصبح أحد أبرز الناشطين في التنوير عن جسامة الأفعال المهددة للبيئة دوليا، فلقد كانت اخطاؤه في هذا المجال جزءا من درب الوصول للحقيقة الحالية ونجاحه في حماية القارة القطبية الجنوبية والحياة البرية فيها من التعدي عليها بالتنقيب الجائر، لقد فشل كوستو في بناء اسرته بشكل سليم وأخفق في منح اولاده الرعاية اللازمة وكان أنانياً لا يفكر سوى بذاته وهذا ما توحيه سرعة زواجه الثاني بعد وفاة زوجته الاولى ببضعة أشهر، فكانت صورته الشخصية القاتمة مكتملة بتلك المأساة التي وقعت على أكثر ابنائه تفضيلا لديه وموته وهو في ريعان العمر. كما أن تفريقه بين ابنائه خلق هوة كبيرة وفجوات سببت مشكلات لاحقة وصلت الى حد التقاضي امام المحاكم وهي نقطة تجاهلها الفيلم من دون سبب مبرر. 
أبرز مشكلات الفيلم، المرور السريع على الكثير من المحطات المهمة في حياة كوستو، التي كانت تستحق الوقوف عندها بشكل مُسهب، وتغطية جوانبها جيدا، لكن صناع الفيلم بدوا متعجلين في عرض اكثر عدد ممكن من المعلومات المعززة بتسجيلات سينمائية، غير معروضة مسبقا، سواء تلك المتعلقة بنشاطه العملي في الاستكشاف، ولاحقا التنوير البيئي او بالجانب الشخصي لحياته واسرته، فوقع الفيلم احيانا بمطب القفز بدل السرد المنساب بسلاسة وباقتران منظم للأحداث. 
لقد اسهم جاك كوستو بشكل رئيس في تطوير ثقافة العالم عن الحياة تحت الماء واعطاء تقدير أكبر لها وبين لنا أهمية التكامل البيئي المنطلق من أعماق المحيطات لحماية مناخ كوكبنا الجميل ومن اجل استدامة تنوعه الحياتي.