واقع مظلم ونفوس مضيئة

آراء 2022/01/19
...

  أحمد حميد 
 
لكلِّ ناحيةٍ وقضاءٍ هناك، رمزية ثقافية تختلف عن الرمزيات الأخرى. لذا من الصعوبة اختزالها بثقافةٍ معينة وهويةٍ ما. لأنها مدينة ولود، انتجت وما زالت تنتجُ الضديات المعرفية والأيديولوجية على حدٍ سواء. أنا لم أزر الناصرية، إلا أمس. لكني أعرفها، وأتلمسُ حرارتها، عبرَ الحضور الخيالي لأمكنتها واجتماعياتها التي برعَ في تصويرها الروائي عبدالرحمن مجيد الربيعي في روايتهِ الشهيرة "القمر والأسوار".  ما إن دخلت المحافظة، بناءً على دعوةِ شبابها لإلقاءِ محاضرةٍ حملتْ عنوان "الخطاب الثقافي وآليات التلقي". حتى سألتُ السائق عن "عكد الهوى" وقضاء الرفاعي وناحية النصر، وقلعة سكر وسوق الشيوخ. ومكمن أسئلتي الفضولية حيالَ تلك الجغرافية الصغيرة، كان بدافع الاعجاب الكبير بما انتجتهُ من أجيال فاعلة في مساحةِ الفكرِ والفنِ والفقهِ والسياسة. فقد شممتُ بقايا من نسيم اليسار في ظل الربيع الإسلامي القائم.  
أثناء المحاضرة، قلتُ للشباب: أغبطكم على مدينتكم المتمردة، لأن جذوة الإبداع فيها تأتي من ذلك التمرد. لهذا نالَ الكثير من مبدعيكم شهرةً استثنائية، ويبدو أن البعض لا يعلم ما قالهُ الموسيقار المصري الكبير "بليغ حمدي" عن (طالب القره غولي) حين وصفهُ بأنهُ "أخطر ملحن". حتى علماؤكم الدينيّين، شكلوا هويةً خاصةً بهم، وهم في فضاء الكلاسك الديني المتمثل بحوزة النجف. إذ كانوا يمتلكون مهاراتٍ علمية وإبداعية خارج المنطقة الفقهية. على شاكلة الفقيه والعالم النَّحْوِيّ السيد رؤوف جمال الدين، والسيد الفقيه وأستاذ الإيقاع الشعري في جامعة بغداد الدكتور مصطفى جمال الدين، فضلاً عن الشيخ طالب السنجري والدكتور عبدالجبار الرفاعي، الذي راحَ يزاوجُ بين القلبِ والعقل، في خطابهِ الفلسفي.
في تجوالي الليلي، كنتُ أبحثُ عن "يا حريمة" لعلها تقطنُ في مقهىً ما، ورغم فشل الوصولِ إليها، عالجَ خيبتي حضورشبابٍ مبدعٍ في شتى الاختصاصات، وكان اليأسُ والاحباطُ واضحين على وجوههم قبلَ حديثهم، فقد قالَ لي الفنان ياسر البراك، نقيب المسرحيّينَ في المحافظة: لا نستطيع أن نقيمَ مهرجان الحبوبي للإبداع، قلتُ: يفترض بالناصرية أن تقيمَ مهرجانات ثقافية وليس مهرجاناً واحداً، فما المانع؟ أجابَ بمرارة: غياب الدعم المالي. قاطعتهُ مستفهماً: أبناء الناصرية يحكمونَ في بغداد، في مواقع تنفيذية عليا ووسطى، لماذا لا تطالبونهم بالدعم؟ ليردّ بحسرةٍ: سئمنا الوعود الكاذبة.  
ولدى مغادرتي المقهى برفقةِ الشباب، قيلَ لي إن رئيس اتحاد أدباء ذي قار، الأستاذ علي الشيّال قد دفعَ الحساب، على الرغم أني لا أعرفهُ ولا يعرفني على المستوى الشخصي. أجابوني: وجهك غير المألوف في الناصرية .. يشي بأنك ضيفٌ عليها، وقد قامَ بالواجب من دون أن يشعركَ بذلك. 
كانت المحطة الأخيرة، في ضيافةِ رجل الدين الشيخ عباس العسكري، الذي فاجأني بفكرهِ النيّر والحداثي، وقراءاتهِ العابرة للمفاهيم الدينية، وإمكانياتهِ الذاتية القادرة على استيعاب واحتضان الشباب المختلف. فقد كانت دارهُ العامرة، عبارة عن ملتقى للأضداد المعرفيّينَ والسياسيّينَ والعقائديّين. وهو ما جعلهُ في مقام الناصحِ الأمين.  يوم من السياحة المعنوية قضيتهُ في الناصرية، سعدتُ كثيراً بكرمِ مجتمعها، وتنوعهِ الفكري الخِصب، إلا أن الأسى كان واضحاً على ملامحَ المدينة الحزينة، المدينة التي تزينها صورُ شبابٍ يافع، مجمل أعمارهم لا تتعدى الثلاثين (وفقاً لمواليدهم المثبتة). و الأنكى من ذلك، هو أداء الحكومة المحلية الجاهلة لرأسِ مالها الرمزي الكبير. لاسيما أنت ترى الظلام يحيطُ بتمثال الحبوبي نتيجة انقطاع الكهرباء.