الـدين والـحرية

آراء 2022/01/19
...

  د. صائب عبد الحميد 
الحرية في مفهومها الفلسفي (العلاقة بين الامكان والضرورة)، خارجة عن نطاق هذا المقال الذي يتوقف عند حرية التفكير وحرية المعتقد وحرية التعبير عن الرأي. 
ولا بدَّ من الأخذ بنظر الاعتبار حقيقة أنَّ موقف الدين من حرية التعبير، لا يتم النظر فيه عادة من خلال النصوص الأولى للأديان، بقدر ما يرجع فيه الى التشريعات الفقهية للديانات والأحكام التطبيقية التي مارستها الأنظمة الدينية على اختلافها، إذ أصبحت هذه التشريعات والتطبيقات المعبر الوحيد والأصيل عن حقيقة الدين، والتفسير القطعي لأحكامه، عند أصحابها.
فمن المعروف، مثلا، أن النصوص المسيحيَّة الاولى تقضي بالفصل التام بين الدين وبين الدولة: {اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله}. 
لكن المعروف تاريخيا أنَّ الكنيسة مارست سلطتها على أتمَّ ما يمكن أن تمارسه سلطةٌ سياسيَّةٌ واجتماعيَّةٌ شموليًّةٌ أحادية. 
ففي القرن الثاني عشر أدخلت الكنيسة في القانون الأوروبي العام مبدئاً جديدا، يقضي: أن الحاكم ليس له أن يحتفظ بعرشه الا إذا استأصل الإلحاد من 
رعيته. 
والإلحاد الذي تعنيه الكنيسة آنذاك لم يكن يقتصر على انكار وجود الله وتكذيب الديانات السماوية، بل كان يطلق غالبا على أولئك الذين يرجعون الى العقل في مناقشة بعض القضايا اللاهوتية التي تتبناها الكنيسة، فكانت كلُّ الأفكار التي تستند الى العقل أفكارا محرَّمة يتعرض أصحابها لشتى أنواع العقاب. 
أما المؤسسة الدينية في الاسلام فقد افترقت عن السلطة منذ العهد الأموي، وبقيت تشقُّ طريقها الديني والعلمي باستقلالية واضحة بالرغم مما تعرضت له من مضايقات الحكام في عهود عديدة، وعلى نحو متباين، فحيثما يميل الحاكم الى إحدى هذه المدارس عقديا أو فقهيا، فإنَّه يوجه ضغوطه التي يصاحبها العنف في أحيانٍ كثيرة على أقطاب المدارس الأخرى. 
أي أن السلطة السياسية في تاريخ الاسلام هي التي مارست العنف، وحتى القتل، ضد أقطاب المدارس الدينيَّة على اختلافها وتنوعها. 
لكنَّ ثمّة سؤالاً يعيدنا الى مركز الاشكالية: فماذا لو كانت السلطة السياسية مؤمنة بالحريات الفكرية، عاملةً على التسوية بين الناس في حقهم هذا على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم؟ هل ستمثل هذه السياسة الموقف الديني من هذا الموضوع؟ هل سيقف الفقه وعلم الكلام الى جنب هذه السياسة ليعززها ويجعل منها دستورا شرعيا؟ 
مهما كان الأمر بالنسبة للسلطان والسياسة السلطانية، فإنَّه ينبغي الاعتراف بحقيقة أن المدارس الدينية الاسلامية لم تكن بعيدة عن ممارسة العنف في أحكامها على مخالفيها سواء من أتباع المدارس الاخرى، أو من أتباعها. 
فوقع كثيرٌ من الوسم بالضلال على الأفكار العقديَّة والاحكام الفقهيَّة المخالفة وعلى القائلين بها. نتج عن ذلك مبدأ (الفرقة الناجيَّة) الذي هو في حقيقته مبدأٌ تكفيري. 
ومما ينعكس عن هذا المبدأ: انقطاع أفق الحرية حتى في التفكير والاجتهاد والنظر، وليس في التعبير وحسب. وهذه هي أخطر مديات قمع الحريات، والذاهبة الى أخطر مديات العنف المشرعن.
ومن دواعي هذا المبدأ الخطيرة أيضا الانغلاق على الذات، وتعميق الحواجز النفسية ضد الآخر. 
الامر الذي يقود الى المبالغة في إضفاء القدسية على المبادئ الخاصة، وعلى ما يترتب عليها من ضوابط والتزامات وممارسات حتى ما هو تاريخي منها ومستحدث دون ضابطة شرعية حقيقية.
لقد أصبحت الحوادث التاريخية التي ترتبط برموز مقدّسة هي الأخرى مقدسة، متعالية على البحث والنقد، مهما كان يتخللها من غموض 
وإبهام.
وهنا يصبح الباحث والمحقق تحت خطر الاتهام بالخروج على الدين كله، والتجاوز على مقدساته، فيما هو يناقش حدثاً تاريخيا منقولا، وقد يكون منقولا بشكلٍ مشوه، أو مبالغا في توصيفه، أو مصطنعا أصلا.