مجلس الدولة العراقي والاجتهاد الخاطئ

آراء 2022/01/19
...

 د. مهدي نعيم الحلفي
 
استقرَّتْ القوانين الإداريَّة والفقه الإداري على أنَّ للقرار الإداري خمسة أركان رئيسة لا يمكن الاستغناء عن أحدها، وهذه الأركان هي «الاختصاص، الشكل، السبب، المحل، الغاية»، وهذه الأركان متلازمة في ما بينها وهي ما يعطي للقرار الإداري قوته وفعاليته في البيئة الإداريَّة، لا بل هي من تمنحه المشروعيَّة التي تمنع أي طعن يمكن أنْ يُوجَّه إليه، وفي الوقت ذاته إنَّ هذه الإركان تدلُّ بما لا يدعو للشك أنَّ الإدارة عليها الانتباه بأنها ليست حرَّة في إصدار قراراتها بشكلٍ فوضوي ومن دون ضابط؛ لأنَّ سلطتها ليست مطلقة والمشرِّع عندما منحها هذه السلطات في إصدار القرارات الإداريَّة فهو مع ذلك قيدها بأركان القرار الإداري، فعلى الإدارة أنْ تعلم بأنَّ سلطتها مقيدة بحقوق الأفراد وحرياتهم وإنَّ أي مساس بأحد أركان القرار الإداري هو في الحقيقة مساسٌ بالحقوق والحريات الدستوريَّة ووصمة عار في جبين المشروعيَّة.
إنَّ القضاء الإداري وجد بوصفه حامياً للحقوق في علاقات ذات طبيعة خطرة ومضرة بمبادئ المشروعيَّة إذا ما تم استغلالها بالشكل غير الذي وجدت من أجله وهي علاقة الإدارة بالأفراد, فالإدارة بما تملكه من سلطات وامتيازات تجعل الفرد عاجزاً عن أخذ حقه منها ولا سبيل له إلا من خلال اللجوء الى القضاء الإداري الذي من المفترض أنْ يكون عادلاً وحازماً في استرداد حقوق الأفراد أمام الطرف القوي. 
ولو لاحظنا اتجاه مجلس الدولة العراقي اليوم لوجدنا أنه لا يراعي القواعد المنصوص عليها في ما يتعلق بركن الشكليَّة، إذ سمح مجلس الدولة العراقي للإدارة بتصحيح أخطائها الشكليَّة في أي وقتٍ تشاء من دون مراعاة لحقوق الأفراد وحرياتهم، أي أنَّ الإدارة إذا ما أصدرت قرار عقوبة بحق موظف مثلاً، وهذا القرار - قرار العقوبة - غير مستوفٍ لركن الشكليَّة، فمن الطبيعي أنْ يلجأ هذا الموظف للقضاء الإداري للمطالبة بإلغاء قرار العقوبة لعدم استيفائه الشكليَّة المنصوص عليها قانوناً، وبعد مراجعة هذا الموظف للمحاكم الإداريَّة لمددٍ تتجاوز العامين تصدر محاكم القضاء الإداري في مجلس الدولة حكمها بإلغاء قرار العقوبة وفي الوقت ذاته تمنح الإدارة الحق في إعادة فرض العقوبة على الموظف بعد استدراك الأخطاء التي وقعت فيها عند إصدارها قرار العقوبة أول مرَّة من خلال الأخذ بمبدأ «الاستيفاء اللاحق للشكليَّة»؛ أي أنَّ الموظف يراجع القضاء الإداري لمدة عامين وأكثر وفي النهاية تعادُ عليه العقوبة عينها لأنَّ القضاء سمح للإدارة بتصحيح أخطائها. عليه يمكن توجيه مجموعة من الأسئلة الى مجلس الدولة مفادها، ما هي الفائدة التي عادت على الموظف الطاعن بالقرار والذي ترافع أمام محاكمكم الموقرة وأنفق المال والوقت والجهد من أجل الطعن بقرار خاطئ غير مستوفٍ لركنٍ مهمٍ وأساسٍ من أركان القرار الإداري وهو ركن الشكليَّة لتتم بعد ذلك إعادة العقوبة عليه ولكنْ بثوبٍ جديدٍ بعد تلافي الأخطاء؟
وهل أنَّ الموظف لجأ إليكم للطعن بقرار غير مستوفٍ لركن الشكليَّة أم أنَّه طلب منكم تنبيه الإدارة بأخطائها وإعادة فرض العقوبة بعد تلافي الأخطاء؟ وهل يضار الطاعن بطعنه؟.
إنَّ توجه مجلس الدولة العراقي الذي سار عليه والأخذ بمبدأ «»الاستيفاء اللاحق للشكليَّة» ليس له سندٌ قانونيٌّ وفيه مخالفة لمبدأ المشروعيَّة كونه يؤدي الى سريان القرار الإداري بأثرٍ رجعي، وهذا الموقف من مجلس الدولة العراقي غير مبررٍ عقلاً ومنطقاً وقانوناً، إذ ليس من الحكمة بعد صدور القرار الإداري يتم الرجوع لاستيفاء الإجراءات الشكليَّة التي نصَّ عليها القانون كون الإجراء الشكلي يفقد وظيفته وغرضه إذا ما تم استيفاؤه بوقتٍ لاحقٍ للقرار الإداري، وإلا فإنَّه يعدُّ تنفيذاً لاحقاً للقرار الإداري.
إنَّ الأخذ بمبدأ «الاستيفاء اللاحق للشكليَّة» من قبل مجلس الدولة العراقي يعني منح الضوء الأخضر للإدارة بتجاوز الشكليَّة أو استيفائها في أي وقتٍ تشاء ومن دون أي مراعاة لحقوق الأفراد وحرياتهم، إذ إنَّ القضاء الإداري في العراق لا يثبت هذه التجاوزات بوصفها تعسفاً في استعمال السلطة، لا بل وصل الأمر الى أنَّ القضاء الإداري العراقي اليوم لا يعدّ تجاوز الإدارة للشكليَّة مخالفة أصلاً ولا ينظر الى القضايا التي يكون موضوعها عدم مراعاة الإدارة للشكليَّة التي نصَّ عليها القانون.
ومن الأمور الخطرة كذلك والتي من الممكن أنْ تحصل في ركن الشكل هي مسألة التصحيح خلال أوقات خارج الوقت المحدد للتصحيح كأنْ تقوم الإدارة بتلافي الخطأ الحاصل في الشكليَّة بعد انتهاء المدة اللازمة لتصحح أخطائها، مستغلة بذلك مسألة إمكانيَّة وحريَّة قيامها بإصدار أي قرار تريده من دون أنْ يكون للمتضرر أي سلاح يدافع به عن نفسه، وفي هذه الحالة تكون الإدارة قد تجاوزت - ليس الشكل فقط - وإنما قد تجاوزت قواعد الاختصاص من حيث الزمان أو ما يعرف بـ»الاختصاص الزماني» وهو وجوب ممارسة الاختصاص خلال الوقت الذي من الممكن والقانوني ممارسته خلاله.
إنَّ الأخذ بمبدأ الاستيفاء اللاحق للشكليَّة يدلُّ بصورة قاطعة على أنَّ مجلس الدولة يجامل الإدارة ويقف الى جانبها ضد الموظف الذي طرق أبواب القضاء الإداري للحصول على حقه، إذ إنَّ القضاء الإداري يوصف بأنه «قضاء إلغاء» أي أنه يقوم بإلغاء القرار الإداري الخاطئ وليس تنبيه الإدارة بأخطائها، أما إذا تغافل القضاء الإداري عن أخطاء الإدارة أو حاول إضفاء المشروعيَّة عن أعمالها فإنَّه بذلك يسهمُ في خلق دولة بوليسيَّة ولن تجد الإدارة من يقف بوجهها إذا ما خالفت القانون وسيهدم جميع المبادئ التي جاء بها مبدأ الفصل بين السلطات الذي يعدُّ أساس الدولة الديمقراطيَّة لتتحول الى دولة دكتاتوريَّة مع قلة السبل أمام الأفراد في مواجهة دكتاتوريَّة الإدارة، فلا يوقف السلطة إلا سلطة مثلها أو أقوى منها ترجعها الى جادة الصواب إذا ما انحرفت.
علما أنَّ مجلس الدولة العراقي يعدُّ «جهة سائبة» من حيث الوصف القانوني؛ كونه لا يخضع لأي سلطة عراقيَّة تشريعيَّة أو تنفيذيَّة أو قضائيَّة، وعليه إذا ما اجتهد مجلس الدولة العراقي أو أصدر قراراً قضائياً خاطئاً لا توجد جهة تراقبه أو تحاسبه ولا يبقى أمام الموظف - وهو الطرف الضعيف - إلا اللجوء الى سلاح الأنبياء وهو الدعاء.