هل كان ناباكوف ملهماً لجاك دريدا وبول دي مان؟

ثقافة 2022/01/23
...

  تيد غيويا *
  ترجمة: محمد تركي النصار
عاش فلاديمير ناباكوف بين المنفى والانتقالات التكتيكية، حياة توزعت بين ثلاث قارات وستa دول، إذ أجبرت أسرة ناباكوف على الفرار من مدينتها بطرسبورغ في أعقاب الثورة البلشفية، ومكثت في شبه جزيرة القرم لفترة قصيرة لتنتقل بعدها إلى بريطانيا إذ أكمل روائي المستقبل دراسته في جامعة كامبردج قبل الانتقال إلى ألمانيا. في عام 1922 تم اغتيال والد ناباكوف عن طريق الخطأ من قبل أحد مناصري القيصر إذ لم يكن هو الشخص المقصود، في حادثة سيظل يتردد صداها بمشاهد عنف متعددة في عمل ناباكوف الأخير.
أقام ناباكوف في برلين لمدة خمسة عشر عاما وغادر بعدها الى فرنسا عام 1937 ثم إلى الولايات المتحدة عام 1940، واشتغل أستاذا في جامعة ويلسلي ثم مديرا لقسم الحرشفيات في متحف جامعة هارفارد، وخلال هذه الفترة كتب ناباكوف أفضل أعماله الروائية ومنها روايتاه المثيرتان للجدل (لوليتا) و (نار شاحبة).
 ساعدت الأرباح المالية الكبيرة غير المتوقعة التي حققتها رواية لوليتا، ناباكوف على التقاعد، إذ سكن في فندق مونترو بلاس لبقية حياته مستمرا بالكتابة ومنتجا أعمالا مهمة مثل رواية (ادا) وكتاب المذكرات (تكلمي أيتها الذاكرة).
وتعد (نار شاحبة) من أهم أعمال نابوكوف من ناحية المستوى الفني، وقد أصيب القراء الذين قرؤوها بالدهشة عندما نشرت للمرة الاولى في عام 1926، لما تتوفر عليه من براعة نادرة، فنحن أمام رواية مبنية 
بذكاء مثل نقلة شطرنج، ومسبوكة بغموض وحذاقة كلمات متقاطعة مصنوعة 
من موسوعة شخصية، لا يتقنها إلا شخص مخرب على سبيل المثال ناقد تروتسكوي فوضوي مثل دويت 
ماكدونالد.
شخصيا انحاز لرأي ماري مكارثي التي تكتب لنيو ريببلك التي ترى أن (نار شاحبة) واحدة من أعظم الأعمال الروائية للقرن العشرين، وبإمكاننا بمرور الوقت ملاحظة أن فلاديمير ناباكوف لم يكتب عملا عبقريا فقط بل أرهص بشكل واضح بكل ثيمات مابعد الحداثة في مجال الرواية ذات الطيات المركبة من المشكلات التي ممكن أن يضمها كتاب.
في الحقيقة، لو صدر هذا العمل في عام 1992 مثلا فسيعتقد الكثيرون بأنه مجرد محاكاة ساخرة للنسيج النصي التفكيكي لنهايات القرن العشرين، لكن، عندما كان ناباكوف يخطط لكتابة (نار شاحبة) بين الأعوام 1956- 1958 كان جاك دريدا مجرد معلم لأطفال العسكريين، وبول دي مان كان يواصل دراسته لإكمال أطروحة الدكتوراه، ولم يكن مصطلح (التفكيكية) يستخدم إلّا في أعمال هدم البنايات.                                                         
هكذا يمكن القول بدقة بأن ناباكوف كان يستجيب للقراءات المكثفة للنص النقدي الذي أسسه أساطين ما يسمى بالنقد الحديث (الذي صار اليوم قديما)، وقد كان يأخذ بالانتشار تدريجيا خلال الخمسينيات والستينيات مطلقا نكاتا خفيفة عن نماذج أدبية معينة مثل الملاحظات التي أرفقها إليوت مع (الأرض اليباب) التي تبدو الخطوط مشوشة فيها بشكل قصدي بين الشعر والسيرة 
والنظرية.
(نار شاحبة) هي ظاهريا نص لقصيدة بالاسم نفسه لجون شايد، مع مقدمة وتعليق كتبه جارلس كنبوت، فضلا عن فهرس تكميلي وزاوية شغف بشري تراجيدي: بعد انتهاء شايد من كتابة قصيدته المؤلفة من تسعمئة وتسعة وتسعين بيتا في الحادي والعشرين من تموز 1959 بفترة قصيرة، تم اغتياله من قبل أحد الفارين من مصحة المجانين الخطرين، وفي أعقاب الجريمة، تعهد كنبوت وهو من جيران شايد بطبع وشرح عمل صديقه بصيغته النهائية. 
تطرح القصيدة حقائق مثيرة للجدل وتحتاج لإعادة قراءتها، وكلما تقدم القارئ خلال النص أما تتابعيا خلال الصفحات أو التحرك بين بداية ونهاية القصيدة تنبثق أمامه العديد من التأويلات البديلة، فالجار كنبوت مثلا ربما يكون الملك المنفي زمبلان المعروف بشكل أفضل باسم تشارلز المحبوب، أو ربما الاستاذ الروسي المجنون، الذي لفت ناباكوف انتباه القراء اليه منحازا لهذا التأويل، لكن قراءة أخرى مستندة إلى معلومات واشارات من المؤلف نفسه تستغني عن كنبوت بشكل تام لتجعله بنّاء لشايد.
وانطلاقا من الرمز ذاته ربما يكون القاتل هو جاك كري أو زيمبلان جاكوب غريديس، وربما لايكون هناك قتل اطلاقا، وكل ما في الأمر أن شايد قد لفق القصة برمتها، حل غريب لكنه معقول لهذه الأحجية، ويا له من لغز ما بعد حداثوي مدهش حبكه ناباكوف اذا لم يكن هناك جسد وشايد ليس هو شايد.
بعد نصف قرن من ظهور هذا الكتاب صرنا معتادين على الكثير من أفكاره، النص داخل النص، الراوي الذي لايمكن الوثوق به وسرده المتناقض، المناورة للعثور على موقع بين القصة وتأويلها، الشخصيات التي تتنافس مع المؤلف للسيطرة على الكتاب، هذه هي علامات معروفة للنزوع ما بعد الحداثوي في كتابة الرواية، وأتساءل فيما اذا نجح كاتب آخر بشكل مقنع في تحقيق ذلك كما فعل ناباكوف في أحجيته الصينية التي أطلقها على شكل كتاب.
  
   * موسيقي وناقد أميركي