العرض المسرحي بين الصورة والسرد

ثقافة 2022/01/23
...

 أ.د. باسم الاعسم
 
تفصح طبيعة العرض المسرحي – بالضرورة - عن حساسية، وثقافة، وذائقة المخرج، الى جانب خبرته العملية الكافية في التعامل مع الأنساق السمعية والحركية والبصرية المشيدة لنص خطاب العرض المسرحي، فإن كان على قدر كبير من الرهافة، والحصافة، والقلق، والاختلاف، في القناعات والأفكار، فلا بدَّ أن ينعكس ذلك بنحو إيجابي على عمله الفني، فيكون – عندئذ - عرضاً مسرحياً مختلفاً، ومغايراً عن سواه من العروض التقليدية، وسنأتي على ذكر أمثلة واقعية بهذا الصدد في سياق المقال.
وإذا ما كان المخرج تقليدياً، لم يقو على مخالفة السائد من الأفكار والمقاربات، مع محدودية ثقافتهة، وانعدام مشاهداته، قانعاً بأسلوبه، فلا يمكن له أن ينتج عرضاً مسرحياً جميلاً، يثير دهشة الجمهور، والنقاد على حدٍ سواء، إذ طالما توارت بعض العروض المسرحية في غياهب النسيان، وتخلف مخرجوها عن ملاحقة المستجدات الفنية والتقنية في عالم المسرح المعاصر، التي أضفت على خطاب العرض المسرحي، سمات الجدة، والحداثة، والمغايرة الأسلوبية.
إن طغيان الصورة، ومن ثم سيادة الخطاب البصري، والعلاقات التشكيلية، في الفنون الإبداعية، وفي الفن المسرحي خاصة، وتزايد الأطروحات الرؤيوية من لدن النقاد والمخرجين المسرحيين، التي عززت قيمة الصورة وتفوقها على السرد الحواري، جعلت بعض المخرجين ينحو منحى مغايراً لما هو سائد في المقاربات الاخراجية، ويسير باتجاه تعميق فاعلية الأنساق البصرية، وتساوقها مع الأنساق الصوتية والحركية، لإنتاج صور العرض الدينامية المثيرة والمشوقة، التي تأسر مدارك الجمهور، من فرط جمالها، وجلالها، وبلاغتها، وفرادتها، مما يؤكد للجميع، من أن العرض المسرحي خطاب فني وبصري وجمالي، وليس خطاباً حوارياً سردياً، بل أن الحوار يكون أداة فنية وفكرية، أو يطوع لتعميق الجانب الصوري وليس السردي.
لقد انطمرت تلك القناعات العتيقة التي عفا عليها الزمن، ومؤداها: إن العرض المسرحي لا يعدو كونه محض حوارات سردية مثخنة بالأيدولوجيات، يرويها ممثلون أوفياء لديكتاتورية المخرج، الذي يختصر لغته، أو فلسفته الاخراجية، بترجمة أفكار ورؤى المؤلف، بهيئة حركات تعبيرية وتكوينات فنية، ذات خلفية ديكورية ثابتة، فتكون العروض التي على هذه الشاكلة، باهتة، أفقية، ساكنة، تفتقر الى التدفق الفني والجمالي المائز، لا جمال فيها، ولا جلال، يمر فيها الزمن ثقيلاً من دون مفارقات أو مفاجئات تحطم الرتابة الايقاعية المحتملة.
لقد امتازت أغلبية العروض في بواكير الحركة المسرحية، بسيادة سلطة السرد اللفظي، وليس طغيان الصور المدهشة، وكذلك النقد –آنذاك- قد انشغل في الحديث عن أدبية النص وليس جمالية العرض، وصوره الممتعة، إن وجدت، بسبب غياب السينوغرافيا والسوشيال ميديا، 
وانعدام الدراسات التي تتمحور حول الصورة وأهميتها، ومسرح الصور في العالم 
الآخر.
ولذلك، عندما اطلع بعض المخرجين على اتجاهات المسرح الأوربي، والثقافة المسرحية البصريَّة، وشاهد هناك العروض المسرحية، التي تعنى بصناعة الصورة المسرحية المؤثرة، تأثر بها وأنفرد، فتفرد باتجاه مغاير لما هو سائد، أمثال حميد محمد جواد ود. صلاح القصب الفنان الباحث، الذي خلخل النسق المرجعي للجمهور، وأربك الذائقة الصدئة، بفرشاة مخيلته التي صاغت منجزه الجليل، وأيقظ العقول النائمة بجنونه الجميل، فانماز عن سواه بعروضه المسرحية الصورية الصادمة، في جميع عروضه المسرحية، التي تكون خلاصته لتصاهر فنون الرسم والشعر والسينما معاً.
ورحم الله الناقد المسرحي الأول (أرسطو) الذي قال: إن التفكير مستحيل من دون صور، وبالفعل إن كل ما في الكون قد تشكل بهيئة صور باعثة على الجمال والفن، بل إننا نعيش في حضارة الصورة على حد قول (رولان بارت)، أما في العروض المسرحية فينبغي أن يستحيل العرض برمته الى صور جاذبة وماتعة، ما دمنا نحيا في عصر الصورة، فلا جدوى لعرض مسرحي يثقل مسامع الجمهور بسيل عارم من حوارات مبهمة وجافة، أو مباشرة مقرفة، من دون مقاربات إخراجية تسر الجمهور، وتمتع حواسهم الإدراكية، وتنمي مداركهم العقلية، وقدراتهم التأويلية، ومبعث ذلك الصور المدهشة، التي تستثير حواسهم، وتعمق صلتهم بخطاب العرض المسرحي.