عن وطنية الثقافة ومستقبلها

ثقافة 2022/01/23
...

 ياسين طه حافظ
 
منذ نشأتنا ونحن نعيش ثقافياً صحبةَ ما ورثناه وما هو متداول بين الناس. ونعتمد في تخصصاتنا الكلاسية على إرثنا الثقافي المدوّن، مطبوعاً أو محفوظاً. ثم بدأت الثقافات الجديدة تزيد حجم وجودها بيننا سنة بعد أخرى.  فنحن، مدرسياً، أمام ثلاث ثقافات: ثقافة «العامة» ويقع ضمنها التراث الشعبي والمعتقدات والمقولات الدينية والإرث. ثم الإرث الثقافي المدون. ومثلما بين هذين متشابهات، في الخطوط الرئيسة، ففي الأولى، السائدة، ما هو مشوّه، أو ما هو محرّف غير دقيق. من الثانية، لا سيما في ما يخص الدين والتاريخ واللغة. ونسبة التقارب والاختلاف بينهما ليست واحدة بين فرد وآخر. ذلك يعتمد على مستوى القرب من مصادرها.
وجود الثقافة الجديدة، الثالثة، مع القديمة والسائدة شكّل ثقافة خليطاً. وهذه ثقافة قلِقة، استقرارها يختلف بين فئة من الناس وأخرى، كما بين فرد وفرد. وهذا يعتمد على مستوى التحضر، وهو في مراكز المدن غيره في اطرافها والضواحي. 
وبسبب من عدم تغطية الصحافة المقروءة والمرئية كل المساحة، اختلفت مستويات هذه الثقافة، ثقافة اليوم المختلطة. وزاد اختلافات مستواها ابتعادها عن مراكز الدرس والجامعات والتجمعات والنوادي الثقافية.
بدأت «الإشابة» أولا بالاتصال الشخصي وبالتماس مع الجديد، كتباً أو شخوصاً. ومن خلال الاكاديميات. ثم زادت مساحة الجديد بفضل الفضائيات والمبعوثين الى الجامعات في عواصم العالم ومراكزه السياسية والعلمية. وهنا لا بدَّ من الاشارة الى أن العمل السياسي والبحث عن أنصار واتباع وتثقيفهم بثقافات سياسية واجتماعية كانت له اسهامة مباشرة في هذا او غير مباشرة. 
كل ذلك وسواه أسهم في وجود ثقافة فيها الكثير، والاكثر فعلاً، من الجديد مع الثقافة المحلية والسائدة والموروثة، ما يمكن أن نسميه بـ «الثقافة المتداولة». وهي ثقافة ليست محلية صرفاً ولا قديمة دائماً وليست جديدة تماماً. فهل لهذه الخلطة الثقافية أهمية مصيرية في كينونتنا، او لها علاقة في تكوين هويتنا الوطنية، فندافع عنها في حماسات تصل حدَّ ان تكون مسلحة أحياناً؟ 
أولا ليس كل ما في الثقافة السائدة مقبولا. فعلينا التمييز بين الصائب الصحيح وما نعتز به. فقد يفيد الاخير في بعض الدراسات الاجتماعية وفي فهم بعض مراحل التاريخ. وهذه، المفيدة، غالباً ما تكون مدونات مكتبية خارج الفعل اليومي وقد تكون آثاراً أو حكايا وأمثلة جمعتها مصنفات. ومثلها نقول عن الرسائل والأشعار ومرويات الاحداث. 
في بعض من هذه لا سيما المدونات، او الآثار، ما يثير دهشتنا مما وصلوا اليه وكأنهم لم يكونوا بشراً لينتجوا شيئاً في زمنهم. 
حسناً اننا وصلنا، لحدٍ ما، للتمييز بين ثقافتين لنا، نحن المدنيين، واحدة يمكن وصفها بالنخبوية. وهذه ذات صلات واضحة ودائمة حية بالثقافة العالمية أو بالثقافات الجديدة في العالم. وتلك الثقافة المحلية التي اسميناها بـ «السائدة»، ابتعاداً عن وصفها بالشعبية. وهي ثقافة محلية كثيرها قديم يحتفظ فيها هذا القديم حتى الان بديناميكية وفعل اجتماعيين، وهي تؤثر في حركة المجتمع وفي طبيعة هذه الحركة. لهذه الثقافة أهمية لطرف من الناس في كون محصلتها معرقلة لتقدم الحركات الجديدة ومعرقلة لتوسعها. ولذلك هي تعتمد في كراهة العولمة وفي التصدي الاجتماعي لأضرارها. 
هي إذا مؤذية في رأي، ومأمونة وطنية في رأي. نعود الى السؤال الان بصيغة أخرى: ما هي وطنيتها؟ التمايز عن العالم لا يكفي دائماً ليكون فخراً. وإدانة الثقافة القادمة ليس دائماً صحيحاً. بل هو خطأ حين يكون سببا لخسارة وجودنا السليم في العالم وفي عصرنا.أما من يحاول الجمع بين الثقافتين والإفادة من دون خسارة، فهذا التوليف غير منتج في الواقع العملي ونتيجته خلخلة ثقافية لا غير. مثل هذا الجمع بين الثقافات يمكن أن يكون بين الثقافات العالمية المتزامنة، إذ يجمعها الجديد والمتقدم، أي المستوى وروح العصر. وهي هنا تنوع فاعل. الفرق واضح بين الحالة الاولى، قديم وجديد، وبين هذه الحال الثانية، جديد وجديد. 
فالمفروض والمرّجح، هو إعادة فهم القديم وتركيب مفرداته بمنطق العصر ورؤيته الحديثة لمضمون ذلك القديم واحترام هذه الثقافة، إذ تشكل مرحلة سابقة من مراحل تقدمنا. وهنا لا تفقد الشعائر والرموز والمعتقدات قيمتها نهائيا ولكن تظل محترمة في المسار التاريخي لحركة المجتمع.
هنا يصير التطلع الى المصادر الثقافية المعاصرة ولكل جديد فيها حاجة اجتماعية. لكي لا نظل معزولين في محميات ثقافية منقطعة. بدلا من هذه المناطق المنقطعة، هذه المحميات الثقافية، يصير المسعى الى كسب مواقع جديدة. وبدلاً من تشبثات المهزومين بالقديم، يصبح العمل جاداً لأن تكسب الثقافة وطنيتها من خلال نوع الاسهام في الثقافة العالمية. افلا رمزية وطنية في انجاز محلي جديد ضمن منجزات العالم؟ لمثل هذا شواهد معترف بها في العلوم والآداب والمواقف الاخلاقية ايضا.
لكي نتقدم، لا أقول ننقطع عما لدينا وعما امتلكته الامة يوماً ونمسح مدونات ارثنا. نريد فكرها ونريد نتاجها. ولكن نحن لا نريد أن نجعل من خوف السيطرة خوفاً من الجديد وخوفاً من التقدم وبعد ذلك خوفا من الحضارة. وصل الخوف بنا الى الخوف من الحقائق العلمية والمكتشفات الجديدة ومن الازياء الجديدة وتسريحات الشعر الجديدة. اجمعوا هذه المخاوف كلها، تصبح المحصلة الخوف من الحياة ومن الزمان الذي نحن فيه. وهو هذا الشلل الذهني الذي تسعى اليه بعض الاتجاهات للابتعاد عما يسمونه شرور الدنيا أو أمراض العصر أو الكفر أو السقوط ... أعتقد بأن الكفر وأن السقوط هما ايقاف التقدم وحرمان البشر مما هو جديد. فأية مفاضلة بائسة بين البؤس المزمن والاضطهادات الكثيرة وبين الحياة الجديدة وهي تستضيف المزيد من الرفاه ومن حقوق الانسان ومن مذاقات الحرية وتفتح الابصار على مغاليق الكون؟ أيتها الحياة الجديدة، تعالي!