الجسد المُدان في الفكر الفلسفي

ثقافة 2022/01/25
...

 قيس عمر
أعاد الخطاب الفلسفي مع نيتشه التفكير في مواضعات الجسد المرئية، فثمة تحول فلسفي عميق إزاء الجسد، فنيتشه يراهن على التمركز حول البعد المرئي للجسد (السليم) بوصفه صورة بدئية للإنسان الأعلى (السوبر) الذي بشر به في كتاباته، فالإنسان الأعلى يتمتع بجسد، يقوم على بعد مرئي يتجاوز ثنائية (الجسد المادي/ الروح الميتافيزيقية)، 
وهذا البعد المادي البدئي عليه أن يكون، غير مفارق للطبيعة الجسدية السوية، فشكله الخارجي غير مشوّه، ولا مُخان على مستوى الحركة، ولم يتعرض للوصم مرئياً، على المستوى القشري الخارجي، وإذا كان الجسد مُداناً في بعده المرئي، فإنه يشكل حقلاً مضاداً «للجسد السوبر» على المستوى المرئي، وهذا الحقل من الأجساد المدانة في مفهوم نيتشه، يشكل خطراً على المجتمع البشري فهو يذهب بشكل مباشر لقلب «الجسد المدان بالعيش» و «المُخان حركياً» ويحدد جوهر الإدانة «إنَّ المرضى يشكلون أكبر الخطر على الإنسان، لا الأشرار ولا الحيوانات المفترسة، إن المنكوبين والخائبين وذوي العاهات هم، بالذات أولئك المعتوهين من بين البشر، هم الذين يسممون ثقتنا بالحياة
والإنسان». 
تتكشف هنا وبشكل لا مزيد عليه، أن مواضعات الجسدنة في فلسفة نيتشه، تشكّل حقلها المعرفي بناءً على بعد مرئي حاسم، يسهم بتحديد حقليّ الجسد السوبر/ المدان، ويعمل على تشييد مفاصلة 
إجرائية تتطلع مستقبلاً لمحو حقل الجسد المُدان مرئياً، فالجسد المريض، والمكتهل، والمشوه، والمعاق، هو جسد يشكل خطراً على حقل الجسد السوبر مرئيا، فهو جسد مُدان بالحياة والوجود، وهذه الإدانة تنغرس في «انطولوجيا الجسد» وتتوغل بعيداً في «الأنا اللحمية» كما يعبر عنها ميرلوبونتي، فالجسد هنا مُدان بالعيش، ذلك أنه يسمم نظرتنا للحياة والعالم، والنتيجة هي ارتجاف الثقة واهتزازها بالإنسان السوبر المنتمي لحقل الجسدنة المرئية غير المشوهة، وغير المدانة في أناها 
اللحمية.
إن البحث عن ظلال فكرة تقسيم «الحقل الجسدي»، على المستوى الأبستيمي، لحقلين متضادين يستمد مرجعياته من طروحات داروين، فثمة علاقة شبحية، تختبئ في خزانة المعرفة، فطبيعة العلاقة الابستيمية بين مشغل داروين الأحيائي، ومشغل نيتشه الفلسفي، هي المفاصلة المتقاطعة بين حقلين متضادين (حقل القوة)  و (حقل الضعف)، فالتطور والبقاء في المشغل الأحيائي يقوم على مبدأ الانتخاب والبقاء للأصلح/ الأقوى، بمعنى آخر ثمة جسر خفيّ هو الصراع ما بين حقليّ القوة والضعف طبيعياً، هذا الصراع سيتيح البقاء للأقوى في حين سيموت الضعيف ويغيب عن الحقل العمومي للقوة، هذه من جهة داروين، في حين أن نيتشه، يقدم نتائج مباشرة تسرع وتختصر الزمن، فالإنسان السوبر، المنتمي لحقل الجسد غير المُدان صاحب القوة المرئية، يتمتع بحق العيش بينما الجسد المنتمي لحقل الضعف المشوه مرئياً والمُخان حركياً، لا يمتلك حق البقاء والمنافسة، لهذا وجبَ التخلصُ منه، ولعل أي عملية تجسير ما بين داروين ونيتشه ستكشف عن أن حق البقاء هو للجسد/ الكائن، الأصلح بفعل التنازع والتصارع، فنيتشه يصرح بشكل مباشر، بضرورة إدانة الجسد المُصاب في بعده المرئي بفعل التشوه أو الوصم، فهذا الجسد يعمل على إرباك الحركة الداخلية للجسد السوبر المنتمي لحقل «الجسدنة» غير المشوهة والتي تتمتع بحق العيش
والوجود.
ثم يذهب نيتشه لاحقاً لتطوير «حقول الجسدنة» ويعمق المفاصلة المرئية بينهما فـ «الجسد المدان» بالحياة والعيش، يتحول في الحياة العمومية وفضاءاتها إلى نبتة سامة وقبيحة «هذه العشبة السامة، الصويغرة، المتخفية المنافقة، المتكلفة.
هنا تدب دويدات الكراهية والحقد دبيباً ويتشبع الهواء بروائح خفية، لا تفصح عن اسمها هنا تنعقد، دونما انقطاع، أواصر تآمر خبيث، تآمر أهل المعاناة والألم ضد الأُبَداء وأصحاء الأبدان».
إن الطبيعة اللغوية لخطاب نيتشه بعامة، وفي هذا النص بخاصة، تكشف عن موقف ابستمولوجي عنيف تجاه حقل الجسد الواهن والمُدان بالعيش، فطبيعة الجسد المشوه والمُخان، تستمد صورتها من حقل المرض ولوازمه، إنها نزعة تحقيرية وتصغيرية، تتوغل عميقاً وتعرض الداخل الجسدي المُخان والمشوه لضوء الشمس، إنه يعزق في روح اللغة، ليرسم هذا المشهد الاستعاري لـ «الجسد المُدان» بالعيش بفعل تشوه بعده المرئي. 
إن الجسد علامة مرئية مشاعة لفعل التحديق، وتتيح هذه العلامة في مؤشرها الدلالي إلى إمكانية تحديد تطور الإنسان، فإذا كان داروين قد حدد نظام «الانتخاب الطبيعي» على المستوى الأحيائي، فإنه بهذا يكون قد شيد نظاماً معرفياً بناءً على فكرة «الحقول المتجاورة»، حقل قوي وسليم، يتجاور مع حقل ضعيف مُخان ومشوه، وفي النهاية سيتلاشى الحقل الضعيف، ولن تتاح له فرصة البقاء، فالبقاء هنا لــ «الأصلح/ الأقوى».
 هذه المفاصلة الحقلية على المستوى البيولوجي بالنسبة لداروين، كانت بالقوة وليس بالإرادة، ولكن نيتشه يستخرج شبح المحو، من خزانة البيولوجيا، وينقله لفلسفته الأيتيقية وهذا ما يجعل الفرق واضحاً، ما بين داروين وما بين نيتشه، الذي ينقل هذا لحقل الإرادة، ويوسع ممكنات المحو والإدانة، على المستوى
الأيتيقي.
إن الجسد واحد من الأسلحة والمطارق التي اعتمد عليها نيتشه في تقويض جينالوجيا الأخلاق على المستوى التاريخي، فالحقول الجسدية المتقاطعة، تعمل كظهير أحيائي مادي، يتآزر مع البنية الايتيقية، التي يتبناها نيتشه، فالجسد القوي المنتمي لحقل القوة، يتمتع ببروكسيميا فوقية، أمام الجسد الضعيف المدان بالعيش، فهو يرى أن على الجسد القوي والأرقى أن لا «ينحط حتى يكون أداة بيد العنصر الأدنى، واحترام حق المسافة يجب عليه إلى
الأبد».
إن «حقول الجسد» في الفلسفة الحديثة، تتشكل على أساس مرئي، وأيتيقي، واقتصادي، هذه المحركات تعمل كبنية معرفية صلدة متآزرة، مهمتها تأسيس فهم مغاير للجسد يتقاطع ويتضاد مع مفهوم الجسد بمعناه التاريخي، والقائم على أساس (جسد/ روح) فبدل أن يكون الاهتمام ميتافيزيقياً بالروح وعلى حساب الجسد، حاولت الفلسفة النيتشوية، إعادة الاعتبار للجسد وتحويله لمطرقة تحطم التصورات الاخلاقية «التاريخية».
وهذا يترتب عليه حكم على الجسد يدخل في باب «الإدانة الانطولوجية» ويتجلى هذا في إرادة القوة، فالمحو هو مصير «الجسد المُدان» بالحياة، والعيش، والوجود، فالجسد لدى نيتشه واحد من العناصر المهمة في معركته ضد
الميتافيزيقيا.