ليلة الجنون الأميركي

آراء 2022/01/25
...

 د. كريم شغيدل  
سنترك الكلام عن الجانب الجيوسياسي والستراتيجيات لذوي التخصص، كما نترك الحديث عن المخططات التي رسمتها القوى العظمى للشرق الأوسط الجديد، والعراقيون جميعاً يعلمون علم اليقين أن أميركا هي التي استدرجت الطاغية المقبور المتهور صدام حسين لغزو الكويت، مثلما ورطته مباشرة أو عن طريق حلفائها بالحرب مع إيران.
 
دعونا نتحدث عن تلك اللحظة التي لا تمحي عن ذاكرة العراقيين ووجدانهم، قد يمرُّ عليها التاريخ المدون بوصفها حرباً شنها التحالف الدولي بقيادة أميركا لإخراج الجيش العراقي من الكويت، نقطة راس سطر، لكن من سيتحدث عن مخاوفنا في تلك الليلة؟
مرت قبل أيام ذكرى ما سمي بعاصفة الصحراء 17 - 1 - 1991، وكانت أشد من عاصفة وأكبر من زلزال، منذ ظهيرة يوم 16 - 1من تلك السنة خلت الشوارع من السيارات والمارة، توفي جاري المعلم (أبو حيدر) انسحب الجميع ليكونوا قرب أسرهم، بقيت أنا وصديقي جبار مطشر وعادل خزعل خال أولاد المعلم المسجى جثمانه في صالة المنزل، زوجته الحائرة المنكوبة، وأبناؤه وبناته الستة الذين لم يبلغ أي منهم سن الرشد، غير قادرين على فعل شيء سوى العويل، يا للكارثة!! كيف سننقله إلى مقبرة دار السلام؟ خرجنا إلى الشارع العام نتوسل سائقي سيارات النقل الكوستر) ولم نتلقَ منهم سوى ملامح التعجب الممزوجة بشيء من السخرية، من يذهب إلى النجف بمثل هذه الساعة، يئسنا وقبل أن نقرر العودة لمحنا سيارة (كوستر) مركونة أمام أحد البيوت في بداية الزقاق، دلفنا نحوها، وجدنا صبياناً ينظفون داخلها من بقايا طعام وفاكهة وكعك، ثم خرج إلينا السائق فكلمناه بلغة مختلفة فيها طلب النخوة والمروءة والمواقف الرجولية التي لا تطلب إلا من أهلها.
وبعد أن وعدنا بالاستجابة فاتحناه بالأمر، تردد قليلاً وأقسم بأنه عاد تواً من النجف، ومع ذلك طلب أن نمهله ساعة ليستريح ويلتحق بنا إلى مكان الجنازة، عدنا والقلق ينهش دواخلنا، ربما لن يأتي؟! لكنه أتى، وسرنا في الطريق إلى النجف، خلت شوارع المدينة إلا من الخوف والترقب، كما خلا الطريق الخارجي إلا من بعض الجنائز، وما أن عدنا إلى بيوتنا الغارقة في الظلام حتى بدأت مشاعر الخوف تطغى على كل شيء، قلبت موجات الراديو الترانسستور لأسمع نشرات الأخبار من لندن ومونتو كارلو وبغداد، تشوشت الموجات وتداخلت، وبينا تذيع بعض الإذاعات أنباء عن اقتراب المهلة التي منحتها أميركا لصدام وتوقع نشوب الحرب.
كانت إذاعة بغداد تصدح بأناشيد الحماسة وتهتف باسم الطاغية، وسرعان ما غفوت من التعب ولم أستيقظ إلا عصر اليوم التالي ليلة الجنون الأميركي التي لم تتكرر، إذ سقطت على بغداد أطنان تعادل سبع قنابل ذرية من التي ألقيت على هيروشيما وناكازاكي، اهتزت الأرض بنا ومادت، وأنا احتضن والدتي رحمها الله وأختيي الصغيرتين، عصفت السماء وومضت الزلازل فوق رؤوسنا، 
نحن الذين عشنا ويلات ثماني سنوات من الحرب، لم نمر بمثل هذه اللحظة الكارثية، وهكذا كان حال العراقيين الذين تخيلوا أن العراق اقتطع من خريطة الكرة الأرضية وطوح بها في الفضاء، كيف تقنع أماً مرعوبة وصبيتين مذعورتين بأنهم لا يستهدفون المساكن، القصف شديد ومرعب وقريب منا، الترسانة الأميركية جربت كل ما بحوزتها من صواريخ وقنابل وطائرات وتقنيات حديثة في تلك الليلة، بينما لا يملك المقبور 
ويا للسخرية.
سوى تقنية حرق إطارات السيارات وآبار النفط، ظناً منه أنه يضلل سلاح الجو الأميركي، الذي يعمل بمختلف تقنيات الرؤية الخارقة، قصص مؤلمة تختزنها الذاكرة العراقية مما سببته تلك اللحظة من إرهاب نفسي، وبدل أن تتوفر لنا ظروف ملائمة لترميم نفسياتنا المنكسرة دخلنا في دوامة الحصار المؤلمة، بعد هزيمة قواتنا وآلاف الضحايا، وهياج الشارع العراقي ومآسي الانتفاضة والمقابر الجماعية، بعد أن وفرت أميركا نفسها لنظام الطاغية فرصة لضرب الثوار، ومنذ تلك اللحظة حتى اليوم، لم نجد فسحة لاسترداد 
أنفاسنا.