يتخذون من الجدران متنفساً لهم .. من هم الذين يشوّهون عاصمتنا؟

ريبورتاج 2022/01/27
...

 مينا القيسي 
من حين الى آخر، تتنشط أيادٍ مخربة ما بين الرابعة والخامسة فجراً لتضع بصمتها على جسر «محمد القاسم» أحد أهم جسور العاصمة بغداد، الذي يمتد لأكثر من منطقة. الشاب (م. ص) البالغ من العمر 21 عاما، لم تسعفه قدماه للهروب من صفارات الانذار، التي نبأته باقتراب دورية شرطة النجدة اثناء جولتها الميدانية الليلية، ما أدى الى انفعالهِ التام وسقوط الأصباغ من يده لشدة خوفه، فاقتادوه برفقتهم الى مركز الشرطة مخلفا وراءه جسراً يعاني من تشوهات منظره لوحده.
إنَّ التعبير عن الكبت النفسي ورفض الواقع الاجتماعي او السياسي، وتخليد اللحظات عن طريق الكتابات والرسومات العبثية على كل حجرٍ صلب، هو ظاهرة ليست جديدة او دخيلة على مجتمعنا العراقي، حتى أنها لا تُحتصر على مجتمع معين، نشهد رؤية هذهِ «الخربشات» في كلِ مرة نغادر فيها المنزل متجولين في سيارةِ النقل، اينما نذهب نجدها أمامنا، على جدران المدارس، بعض المؤسسات الحكومية والدوائر، أرصفة الطرق، الصبات الكونكريتية، الأنفاق، والساحات
العامة.
 
فوضى بصريَّة
كان غريبًا على السائحة الدنماركية كرستين ماثياس (34 عاما)، رؤية الفوضى البصرية التي سببتها خربشات عشوائية تخلو من أي معنى أو دلالة قد رُسِمت على جدران وحوائط العاصمة بغداد، وأن كل ما تمكنت من فهمه هو حرفان بالانجليزية يتوسطهما «قلب الحب» وقليل من «الإيموجيات» التي نجدها في اجهزتنا النقّالة. رغم سعادة ماثياس العارمة كون أنها استطاعت أخيراً أن تحط رحالها في بلد الحضارات، إلا أن شيئًا واحداً أشعل الحزن في وجدانها، هو رؤيتها غير البهيجة تمامًا (على لسانها) لبعض معالم ونصب بغداد التاريخية، التي طالتها أيدي المخربين وتجرأت على مس سحرها وهيبتها.
 
غالبيتهم من المراهقين
ولمعرفة الفئات التي تمارس هذا السلوك التقينا الرائد عباس ناظم المختص في التوجيه المعنوي والعمليات النفسية في وزارة الداخلية، والذي حدثنا بدوره قائلاً: إن الفئة الأكبر التي تمارس هذا السلوك غير الحضاري هي فئة «المراهقين»، التي تتراوح اعمارهم ما بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة عاماً، تليها فئة «الأطفال» لكن بنسبة قليلة جداً، فتراهم يكتبون كتابات غير مفهومة ورموزا وأحرفا، وتواريخ التواجد في المكان الفلاني لتسجيل ذكرى مع الصديق او الخليل، وأرقام خاصة وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وجمل رومانسية أحيانًا تكون غير أخلاقية وشعارات تعبر عن حالتهم النفسية وغيرها الكثير من العبارات الترندية. ثم تأتي فئة «البالغين» ابتداءً من سن العشرين فما فوق، تكون غالبتهم من أصحاب عجلات رفع السيارات «الكرين» او أصحاب الإعلانات. 
مشيراً إلى أن هذه الأعمال التخريبية التي تمس رونق بغداد الحضاري لا يمكن تحديدها أو حصرها بعمر معين.
مضيفًا، كان يُحتصر افتعال هذا التصرف على الرجال فقط لكونه يحتاج الى جرأة صريحة، لكن في السنوات الأخيرة وجدنا أن البعض من النساء ايضًا دخلنّ الى حلقة المبادرة.
من الجانب نفسه، تقول «أم رونق» (٥٤ عاما)، إن لديها اثنين من الأبناء في المرحلة الابتدائية، حيث تضطر لتوصيلهم إلى المدرسة صباحًا ثم الجلوس على إحدى الصبات لانتظارهم، مؤكدة بقولها إنها شاهدت في مرات عديدة مجموعة من الصبيّة المشاغبين وهم يقومون بأعمال تخريب لحائط المدرسة بعبارات مبتذلة وخادشة للحياء، مستغلين فترة الظهيرة وخلو الشارع من الناس.
 
النصح والإرشاد
وبالعودة الى الرائد عباس ناظم وحول حديثه عن دور المؤسسات الحكومية في معالجة هذه الظاهرة، قال: توجد العديد من الحملات التي تمت مشاهدتها من قبل وزارة الداخلية كاللجنة المركزية للعمل التطوعي، وكذلك في ما يتعلق بمؤسسات المجتمع المدني، وشهدنا بالتعاون مع الكثير من المنظمات تنظيف الساحات والشوارع والنصب من خلال عدة فرق، ورأينا منشورات مطبوعة تروّج للحفاظ على وجه العاصمة الحضاري والموروث العام لديمومة رونقة.مضيفًا: هناك جولات مستمرة من قبلنا على المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد والكليات، نقوم من خلالها بإلقاء توجيهات مفصلة لكيفية الحفاظ على نظافة وسلامة معالم بغداد، لأن التثقيف المباشر للطلبة يزرع في نفوسهم حب الوطن واحترامه منذ نعومة اظافرهم، ولحسن حظنا أننا وجدنا تأثيراً واضحاً واستجابة سريعة من قبل الطلبة وأولياء أمورهم.
 
السلاح الأهم
تقع على عاتق الإعلام حصة المواجهة الكبرى للتصدي على مثل هكذا ظواهر سلبية ومن ثم طرح المعالجات. هذا ما قاله ناظم حول دور المؤسسات الاعلامية من الأمرِ، مقترحًا اعداد برامج حوارية تتم من خلالها استضافة المسؤولين المعنيين، للتكلم من زاوية تثقيفية وتوعوية، الى انتاج مشاهد تمثيلية تستنكر وتنتقد بأسلوب ساخر تلك الظواهر، على أن تستعين بشخصيات مؤثرة. إضافة الى صناعة محتوى الكتروني هادف يتم نشره عبر حملة ممولة على منصات التواصل الاجتماعي.
 
رؤية حقيقيَّة
الخبير الستراتيجي محمد فخري المولى أكد لـ(الصباح): من المهم ايجاد الحلول لهذه التصرفات الفردانية واحتواء المتسببين بها وتوعيتهم، لأن بدون الحلول فإن هذه الافعال بالتأكيد ستعود من جديد بواقع يكلف وقتًا أكثر وجهداً أكبر لمعالجته، وكل ما نشهده اليوم من قبح وتشوه لمعالم وجسور بغداد هو نتيجة الإخفاق بايجاد حلول سريعة، خاصة أن ما يحدث هو عبارة عن ظاهرة تراكمية بسبب أنه لم تكن هناك قوانين لحماية المدينة من أيدي المخربين. لذلك نحن بحاجة الى رؤية حقيقية من أمانة بغداد، لأن استمرار هذه السلوكيات الشاذة يعني استمرار الاعتداء الصريح على المنظر العام وممتلكات الغير، كما ان مع مرور السنين لن نتمكن من الحفاظ على تناسق ونظافة المدن. 
مستأنفًا حديثه: إن معاقبة المتسببين بهذه الأفعال هو الحل الأنسب، لان التمادي من طرفهم سيزيد من اتجاهاتهم لمنحدرات سلوكية سيئة كثيرة، وسيكون من الصعب السيطرة عليهم، كما ان عمق بغداد التاريخي بحاجة الى الكثير من الاهتمام  لتفادي عكس صورة سلبية عن مدينتنا الحبيبة.