قـــــــراءة في { منشغلةٌ حد الأمهات}

ثقافة 2019/03/12
...

نصير الشيخ
 
 
ــ كيف يمكننا استخلاص (معنى) من كمية القول الشعري،واعتماده(جوهر) بعد أزاحة كمية (الشجن) وما يستتبعه من عواطف تحمله الجملة الشعرية، وبالتالي الوصول الى المجال الخاص للشعر....وهنا تحضر التجربة بعد مكابداتها ونظرتها الى العالم وتحولات رؤاها، كي تضعنا في مدار الشعر
 الذي نريد.
في كتابها الشعري الجديد ((منشغلةٌ حد الأمهات)) والصادر عن دار قناديل للنشر والتوزيع 2018  بطبعته الأولى.. تطالعنا الشاعرة ((نجاة عبد الله)) بنص طويل،اتخذ معماريته كمصفوفة شعرية تشابه نشيدا سومريا كتب على الواح طينية، هو حصيلة تجربة (فَقدْ) واجهتها الشاعرة،ولأن (( النص الشعري عمل تخييلي، وان المتخيل رغم تصور البعض ان لاعلاقة له بالواقع،ولكن العكس صحيح فأن اشاراته كثيرا ما ترمي الى الواقع وتعاينه)) الناقد ماجد الحسن/ تجليا النص.
العنوان هذه المرة هو من قادنا الى الشكل الكتابي الذي أنجزته نجاة عبد الله بدءً من الأهداء (اليها بلا جدران) وحتى نصها الأخير،وعلى مساحة (110) صفحة، تتلو علينا نشيدها الروحي المشبع بالألم والمتبل بأستيهامات الفقد والخازن بين جوانحه ذكريات لاتحصى، كلها تحولت بفعل الإحساس المفرط من جهة والطاقة التعبيرية من جهة اخرى، الى صور شاعرية اكتنزت بتدفق مبهر..هذا التدفق الشعري الذي يخالطه حزن كبير ليس فقداً ل(الأم) الثاوية في قبر، وانما ل(وطن) يحضر هنا بكل تفاصيله منذ حروبه وحتى تخوم مستقبله المجهول. ذلك ان متوالية من الخسارات تشكلها محطات من حياة الذات الشاعرة.وما موت الأم التي تسامت روحها فقد تركها امام سؤال وجودي مبهم...
((سأكون منشغلة حد الأمهات / بغفران أدرد / وأبواب آيلة للوطن)) 
ص10.
من هنا تحضر مفردة (الآلآم) لأكثر من مرة في انسياحها الدلالي الرامز لعذابات (يسوع) وهي تتلبس ذات الشاعرة لحظة وصولها نقطة صفرية ازاء لحظة (الموت) الذي وقفت بين يديه، الموت هذا الغامض الواضح الفاجع بظلالهِ السود وانخطافه السحري.
 
2                                                              
تفاصيل حياة لا تغادر عوالم الشاعرة في نهاراتها وليلها وربما احلامها،كأن هذه التفاصيل ترقد جوارها على السرير،تشير الى الفقد وتؤثث عالم (القصيدة /الأم)، تأتي هنا في سياقات شعرية حاملة كمية عالية من أسى على مستوى محمولاتها النفسية والشعورية، وانزياح باتجاه دلالات آخر على مستوى اللغة في أقصى
 استخدامها...
         ((أحتسي القهوة /وأتفقد عنبرامي وبخورها / تربة الصلاة /ضحكتها في العلبة /وقفتها على التنور/ مفاتيح خزنتها /دعاء الصباح / وأوراق متناثرة من سورة الدخان)) ص120.
استدعاءات مفردة (الام) أحال الذات الشاعرة لجعلها محورا تدور معها الأشياء جميعها، انطلاقا من التكثيف الشعوري لهذه الذات،وبما يشي من توالد وتواترلهذه المفردة ويكمل محمولاتها الشعورية واللغوية والدلالية لتكتب (تاريخ) جديدا على وفق ما تحصل من أنثيالات خاصة ورؤى على حد سواء أغرق الذات الشاعرة في عوالم حلمية وهي تفقد الأمساك بهذا الوجود البشري الصائر الى زوال.
(( صرت خريفا بلا أمهات
       والأمهات يلدن البكاء
       تدلى الليلُ كأنه أمهات على الباب
       في السوقِ الشعبي أتسولُ الأمهات
       كلما لأمست وجهك أنزرع بالأمهات
       مابال الليل يلسعني كلما نودي للأمهات..)).
 
3
الوقوف أما فعل الموت وفي لحظته الحرجة يمكن الذات الشاعرة من استخلاص موقف وجودي لاتسعفه غير الكلمات، ذلك أنه يخلخل نسقية النظر الى مايجري وبالتالي يترك الذات تتساءل عبر ارتجاعات الماضي كتسلسل كرنولوجي والى المستقبل كصدمةٍ بحاجة الى وعي لعبورها، وهنا فصل المقال ((عندما تكون امام أمر خطير، لاتبكي...لا تضحك...بل فكر!!)).
لنلحظ هذا التحول الشعري والوجودي في هذا المقطع الشعري لنجاة عبد الله:
  (( أضحكُ كالحمقى وأنسل وحيدة / أنتِ في الوطنِ وانا في القبر/ امسك بطرفِ الحجارة وأصرخ كعاقلةٍ / سبحان الذي انام الأمهات / وترك النجاة على الأبواب ))
نقف عند تسمية (النجاة) فهي مرة تشير الى توصيف الأسم ونعني الشاعرة (نجاة) ومرة ينعطف على فعله الدلالي عبر استخدام الجملة حاملة (النجاة على الأبواب) لأنتظار فعل مستقبلي مبشراً بمعاني الرحمة والرجاء الآلهي لغرباء 
هذا الوطن.
(( منشغلةٌ حد الأمهات)) أحسبه كتاب شعري لامجموعة قصائد، ذلك أنه مصفوفة كتابية حملت بين دفتيها وجع آسر ورؤى مكتنزة بالشعر الذي هو خيارنا كي نكون، ودونت فيه تاريخ عائلة وسردية وطن مثخن بجراحه، ذلك ان الشعرسيبقى هو الشاهد والشهيد.