هرمنيوطيقا الاِنفتاح في وحدةِ النصِّ وتعدُّدِه

ثقافة 2022/01/31
...

 محمد حسين الرفاعي
 
(1)
إن تساؤلا مفتوحا عن النص يتضمن تساؤلين اثنين في الوقت نفسه: تساؤل الوحدة، وتساؤل التعدد. ولكن، من جهة أنه، بعد جاك دريدا، تنطوي الثنائيَّات على ضرب من التحديد الأيديولوجي- الاِستراتيجي لكل طرف من طرَفيها، فإن تساؤلا مفتوحا يمكنه أن يوفر الإمكان نحو تجاوز ثنائيَّته الأصليَّة. إن التساؤل، وفقا لذلك، أي ضمن استراتيجية التفكيك، يظفرُ ببنائه بعد أن نعثر على إمكان الكشف عن أسسه الأيديولوجية- والابستيمولوجية- والسوسيولوجية [الـ- ـعلمـ - ـمجتمعيَّة]. 
(2)
إنَّه علينا، إذن، أن نتساءَلَ على نحو منفتح؛ أي ضمن شروط إمكان اِنفتاح التَّساؤل من جهة، وضمن شروط إمكان اِنفتاح موضوع التَّساؤل، أي النص، من جهة أخرى. أن نتساءل عن وحدة النص يعني أن نقف عند مستوى وحدة التناقض في النص؛ وأن نفهم تعدُّد النص يعني أن نتساءل عن وحدة النَّص. إنَّ في التَّساؤل عن ضرورة الوحدة، ثَمَّ دائمًا تساؤلٌ عن ضرورة التعدُّد. لأنَّ أفق الفهم الذي من شأن الاِنفتاح، وقد صار ضرورةً عالَميَّةً، إنَّما هو يشير، في طياته، إلى شطرٍ من الحقيقة: أي حقيقةٍ في كلِّ مرَّةٍ ومن جديد، قد أخَذَ يتصيَّرُ ظهورًا (فينومانًا)؛ أي يأتي إلى مستوى ثُنائيَّة [الظهور في الإنسان- والاِختفاء في الله]، ويقوم، بتحديدها له، عليها.
(3)
الظهور في الإنسان لا يرتبط فقط بضروب التَّجسُّد، ولا هو من أجل أن يتأنسن. لا؛ بل إنَّه فينومانٌ (ظاهرة الظهور بذاته) وقد صارت إنسانيَّةً؛ في معنى أنسنةِ النص الديني بعد إتيانه إلى الواقع المجتمعيّ- الإنساني. إنَّ [في- الواقع] لا يقع النص كما هو، أو كما قد حَدَّدَ له ذلك ضربٌ من الوقوع؛ ولا هو، أيضًا، يتعالق مع الواقع الكُلِّيّ (المجتمعيّ: ثقافيَّاً- اِقتصاديَّاً- سياسيَّاً)، ضمن شروط إمكان تاريخيَّة. ولا هو أيضًا تاريخيٌّ، على هذا النحو أو ذاك؛ بل إنَّه بأنطولوجيا تاريخيَّة، بواسطتها وتوسُّطِها، تريد أن تجعل من النص منفتحًا على التاريخ، نحو إعادة التفسير- الهَرمَنْطَقَة التي من شأنه.    
(4)
أنطولوجيَّاً- وجوديَّاً على نحو داخل الكائن- بعد أن أتى العشق إلى مستوى النَّصِّ والتساؤل عنه؛ يمكننا أن نفهم النَّصَّ عَبرَ فرضيَّة تفسيريَّةٍ فاهِمَة مفادها: إذا أخذنا الرؤيا من جهة أنها قائمة على ثُلاثيَّة [تجربة روحيَّة- والاِمتلاء بالله- والله الذي يأتي من الداخل (أو الله الداخلي)] فإنَّ النص في كليَّتِهِ يُصبح نصَّاً إلهيَّاً. لأنَّه، وفقط لأنَّهُ، يأتي كنتاجِ رؤيةِ شخصٍ ممتلئٍ بالله. إنَّ الله، ههنا، لا يقع [في- الخارج]. ومتى قام التَّساؤل عن كيفيَّة معاينة- ملاحظة نظرية الرؤيا، ومكوِّناتها الموضوعيَّة والميثودولوجية، وكيفيَّة دحضها، فإنَّ «سروش» يشير إلى طريق المتصوفة، ويعطي أمثلة عن تجارب روحية لحافظ الشيرازي، وسعدي، وشمس تبريزي وجلال الدِّين الرومي... وصولاً إلى الوحدة بين الله والإنسان. 
(5)
إنَّ الاِنكشافَ بوصفه اِنفتاح الأفقِ المُبينِ ليحتضنَ محمَّدًا، عَبرَ المنفتح بذاته؛ قد صارَ، أي الاِنكشافُ، في جذره العميق، أفقَ الرؤيا لدى محمَّد. ولم يتوحَّدْ محمَّدٌ مع المنكشف بذاته، وهو لم ينصهرْ في محمَّدٍ، إلّا لأنَّ محمَّدًا قد توفَّر على شروط إمكان التَّرَوُّح (من الرُّوح) داخله Spiritualization؛ جعلت من المُنكَشِف بذاته أن يكشفَ- يُظْهِرَ محمَّدًا داخله. لقد اِنكشف محمَّدٌ لأنَّ المنكَشِفَ بذاته كان قد توفَّر على أرضيَّة حضور داخل محمَّد، بالتَّرَوُّحِ. إنَّ تذوُّتَ محمَّدٍ كان تروُّحًا. إنَّه قد اِحتضن محمَّدًا في ضرب قَبْلي من الاِنكشاف الذي كان مآله قد تجسَّدَ بالاِنصهار.
(6)
إنَّ الرؤيا، والحال هذي، إنَّما هي، متى أُخذت من الاِنكشاف، تغدو اِنصهارَ محمَّدٍ والله في بوتقة واحدة هي القرآن. إنَّ القرآن لم يأتِ إلى مستوى اللُّغة إلاَّ لأنَّهُ نتيجةَ عشقِ محمَّدٍ والله، من جهة، وتجاوز الثُنائِيَّة إلى أُحاديَّة العشق بذاته الذي يريد أن يتجسَّدَ لغةً، من جهةٍ أخرى. إنَّه يريد أن يتجسَّدَ لأنَّ جسدَ اللُّغة ههنا إنَّما هو في تواشج بنيوي مع إرادةِ أن يأتي إلى حقل الشعور به. وإذا ما أُخِذَت اللُّغة، ههنا، بوصفها حقلاً يَبني البِنيَة/ البِنى، ويحدِّدها، فإنه، بَعْدِيَّاً، تُصبح وحدة اللُّغة الدينية بعامَّةٍ، والقرآنية بخاصَّةٍ، منفتحةً في جذرها، على التعدُّد في إعادة بناء التَّساؤل- التفسير- التأويل، ولو بعدَ حين.  
(7)
إنَّ مثولَ اللهِ داخلَ محمَّدٍ إنَّما هو، في تخصيص بنيوي للنص، بوصفه نتيجة رؤيا محمَّد الممتلئ بالله، إنَّما هو يكون فيأتي إلى مستوى اللُّغة، لأنَّ، وفقط لأنَّ، اللهَ يريد أن يأتي إلى روح محمَّد. إنَّ روحَ محمَّدٍ إنَّما هي الله وقد صار بمحمَّدٍ وفيه هو هو. إنَّ حيثيات كينونة محمَّد بوصفه باللهِ، ومن اللهِ، وللهِ، وفي الله، إنَّما هي واقعةٌ على محمَّدٍ بالعشق. إنَّ محمَّدًا اِنكشف في الله، واِحْتُضِنَ من الله، فاِنصهرَ بالله، فيه، قد كان والله واحدًا. إنَّهما معًا أو لا يكونا. إنَّ ذلك جعلهما، الله ومحمَّد، واحدًا. إنَّه، أي محمَّدٌ، إنَّما هو الداخل الخاصّ- الأخصُّ بإنتاج الوحي. 
(8)
إنَّ أنسنة الوحي تتضمَّنُ، في طياتها، أنَّهُ يُوحَى إلى الإنسان بأن الله داخله، وبأنه داخل الله. يوحى إلى الإنسان، أي إنسان، كما أُوحِيَ إلى محمَّدٍ. ثَمَّةَ وحدة الوحي لكل الإنسان، جمعاً مجموعاً، في كُليَّتِهِ، وثمَّ تعدُّد الوحي، وفقًا للدرجة (المرتبة) التي يكون قد بلغها الإنسان بتجربته الروحية؛ أي بالتَّرَوُّح. إنَّ ذلك كله، يقوم على ممارسة الفهم- التفكيك- النقد على 
نظرية سروش. ولكن، ما هي العقبات التي واجهت سروش في الأخذِ بالنص جذريَّاً؟ أي اِنطلاقاً من ماهيَّة يُقدِّمُ النصُّ بها ذاتَه إلى الإنسان؟.