الرقصُ على إيقاعٍ مُضطَرب

ثقافة 2022/01/31
...

 رضا المحمداوي
 
(إعادة ضبط المصنع) عنوان مسرحي واضح وصريح وبواقعية قد تحيلك إلى معنى البروليتاريا بثقلهِ اليساري المتداول والمعروف، أو رُبَّما تأخذك إلى حياة الطبقة العاملة وتفاصيلها وهمومها وتطلعاتها المهنية، لكن هذا المعنى في مسرحية (إعادة ضبط المصنع) لمؤلفها ومخرجها: علي دعيم التي قُدِمَتْ مؤخراً على خشبة مسرح الرشيد، سرعان ما يتبدد ويتلاشى بعد فتح الستارة مباشرةً حيث لا تجد مصنعاً ولا معملاً ولا حتى ورشة عمل صغيرة، وليس هنالك من بيئة أو فضاء يدلّان على قيمة العمل أو وجوده الذي اتخذت المسرحية عنوانها منهُ ومن هنا بدأتْ أُولى نغمات الإيقاع المضطرب للمسرحية
برمتها.
تم تقديم المسرحية تحت واجهة (منتدى المسرح التجريبي) بهويتهِ المسرحية المعروفة ذات الطابع القائم على مخالفة السائد والمألوف وسيادة الروح التجريبية الشبابية منذ إنشائهِ في ثمانينيات القرن الماضي، ومن هذه البوابة المسرحية الفنية ندخلُ إلى هذه المسرحية وتوجّهها
التجريبي.
فالمسرحية تقوم أساساً على إلغاء البناء التقليدي للمسرحية بما في ذلك النص الدرامي بشكلهِ ومحتواه المتداول والذي يعتبر عماد العرض المسرحي، وكذلك تمَّ الاستغناء عن الحوار والاستعاضة عنه بلوحات الرقص التعبيري والحركات الإيقاعية أو ما باتَ يُعرفُ لدينا بـ (كيراكراف) وقد تمثَّلتْ لنا في هذه المسرحية باللوحات المشهدية التي جسَّدتْها المجموعة المكونة من ستة ممثلين شباب.
وأحسبُ أن هذا النوع من العروض المسرحية ينتمي الى ما بات يعرف بـ (مسرح ما بعد الدراما) حيث تغادر المسرحية محطاتها القديمة وتتخلى عن مسرح اللغة والحوار والصراع ليتم التركيز على الموسيقى والرقص التعبيري والطابع الحركي للأجساد البشرية على حساب المعنى الذي غالباً ما يكون شبحياً في حين تغيب الفكرة وسط ضبابية العرض المسرحي نفسه، ورغم ذلك تبقى العروض الفنية لهذا النوع المبتكر من المسرح مفتوحةً على الكثير من مفردات الجدة والحداثة والابتكار المستجد في الأفكار وتمثلاتها على خشبة المسرح.
منذ المفتتح المسرحي الاوَّل حيث المؤثرات البصرية والسمعية لأضواء البرق وأصوات الرعد وتساقط الأمطار حيث تبلّلتْ خشبة المسرح بالماء وحتى الختام لا يمنحُ العرضُ المسرحي نفسَهُ بسهولة ولا يصل إلى ذائقة المتلقي – المتفرج بيسر وتفاعل رغم أنَّ المرجعيات التنظيرية الأجنبية قد ركّزتْ كثيراً على ضرورة التفاعل بين الممثلين والجمهور في ظل التأكيد على جماليات العرض الفني ووحداته البصرية المتعددة المكونة
للسينوغرافيا.
ولم تكن اللوحتان الرئيستان اللتان تكوَّن منها العرض المسرحي لتفصحا عن المعنى والفكرة الرئيسة للمسرحية، وكذلك الشواخص الثلاثة المعلقة في سقف المسرح والتي تشبه خيال المآتة برموز الكتب والأوراق المكونة منها، ومعها كومة الكتب التي يحملها أحد الممثلين برأسهِ المُكوَّن من مجموعة أوراق وكذلك حضور الكتب في تصميم فولدر المسرحية.. ربما هذه الرموز والإشارات كانت تشير الى فكرة المعرفة والثقافة وقيمة التنوير لكن لمْ يتعمق أثرها في داخل بنية العرض
المسرحي.
هذا العرض المسرحي بطبيعتهِ التعبيرية الراقصة وخلوه من الحوار أو الكلام وطغيان المقطوعات الموسيقية المتنوعة يفجّرُ مفارقتَهُ الكبيرة في خاتمة العرض المسرحي حيث التلاوة القرآنية لـ (سورة العلق)، وما هو شكلَّ موضع تساؤل أو استغراب لهذا الحضور المباغت في نهاية العرض. وإذا كانت هنالك من ضرورة أو أهمية لهذا الجانب الإيماني العميق والحضور القرآني فلماذا لمْ يتمْ زرع هذا المعنى وقيمة الفكرة داخل العرض المسرحي منذ البداية مثلاً أو في متن البناء الحركي والتصميم الفني لتلك اللوحات
 التعبيرية؟
من الجميل والرائع حقاً أنْ يتم وظيف الآيات القرآنية في بناء عرض مسرحي واستثمار معانيها في التأكيد على الجانب المشرق والإيجابي الذي تدعو إليه، ولكن من الضروري جداً التأكيد على هذه المعاني وإبرازها والسعي لإيصالها إلى وجدان المتلقي من أجل ضمان تفاعله معها وإيصال رسالتها إليه وهو ما كانت مسرحية (إعادة ضبط المصنع) بحاجة ماسّة إليه في مضمونها وبنائها ورسمها الحركي
 التعبيري.