فوكو وهوسرل فلسفة الظاهراتيَّة والتحليل النفسي

ثقافة 2022/02/05
...

  ترجمة وقراءة: 
كامل عويد العامري
بعد كتابه الذي صدر في مايو- آيار 2021 الذي يضم مجموعة من النصوص لميشيل فوكو، كتبها في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي ومكرسة لـ لودفيج بينسوانجر، رائد علم النفس الوجودي، صدر كتاب آخر بعنوان (الظاهراتية والتحابل النفسي) يتناول نص مخطوطة غير منشورة كتبت بين عامي 1953 - 1954 (والتي أضيفت إليها ملاحق تمثل ملاحظات ربما كانت تهدف إلى تغذية محاضراته حول هوسرل.
في تشرين الأول (أكتوبر) 1954، كتب ميشيل فوكو، الذي كان حينها مدرسا مساعدا لعلم النفس في ليل- المدرسة العليا للأساتذة، إلى صديقه جان بول آرون حول نص كان يكتبه:»انتقلت الأطروحة من لا شيء إلى الصفحة 150 في غضون شهرين. أنا مندهش جدا من هذا الكتاب الذي نما بسرعة: ليس فقط من خلال نموه، الذي يتطلب العديد من التغييرات، ولكن أيضًا من خلال الطريقة التي ظهر بها؛ لقد اتخذ على الفور شكل استفسار حول فكرة العالم في علم الظواهر، مما قادني إلى تفسير كامل لهوسرل، والذي يمكن القول بأنه تفسير هيدجري، لكنه ليس كذلك، على ما أعتقد. على أي حال، أتساءل كيف تمكنت من لعب دور عالم نفس لعدة سنوات». 
إذا كنا قد عرفنا لفترة طويلة - خاصة بفضل المقدمة التي كتبها في عام 1954 للترجمة الفرنسية لمقال الطبيب النفسي السويسري لودفيج بينسوانجر، «الحلم والوجود» - أن ميشيل فوكو كان مهتمًا بالظواهر. وفي الطب النفسي، لم يكن معروفًا عنه أنه عمل بالفعل على النصوص التأسيسية للظاهرتية ومفاهيمها الأكثر جوهرية. بينما، منذ الستينيات، كانت إشارات فوكو إلى الفينومينولوجيا إشارات عرضية نسبيًا وتميل إلى اختزالها إلى جانبها الوجودي، والتي سرعان ما يطعن فيها باعتبارها ذاتية للغاية، ويبدو هذا المؤلف الجديد منظمًا للغاية في مقاربته للفلسفة المعاصرة، وهو يكرس عددا لا يحصى من المرجعيات الواعية. 
والملفات الصارمة في معظم الجوانب الفنية لعمل ريكور وناتورب ومينونج وبرنتانو، وهوسرل.
للمخطوطة جوانب عديدة، فهي تأتي بوصفها دراسة مرتقبة ولكنها في الحقيقة متعمقة في أكثر القضايا الفلسفية حداثة وتقنية، ويذكّر مستهلها التقليدي إلى حد ما، بمصطلحات الجدل بين الظواهر وعلم النفس من ناحية، والمنطق من ناحية أخرى. وعند ذاك أتاحت الظاهراتية لفوكو، مثل كثيرين آخرين قبله وبعده، بالتنديد بأوجه قصور وسذاجة أي علم نفس طبيعي حصري. ثم يشرع، بطريقة تربوية، في تحييد أخطاء القراءة والتفسير التي يمكن أو ربما تسفر عنها قراءة النص الهوسرلي، كما هو الحال على سبيل المثال في ما يتعلق بمفهوم (الأشكال eidos) [النظرية الأفلاطونية للأشكال المعقولة - مصطلح استخدمه أفلاطون وأرسطو بالمعنى الميتافيزيقي وعادة ما يُترجم إلى «شكل» أو «جوهر» أو «نوع»]. 
لكن نص فوكو لا يقتصر على تقديم بانوراما لأطروحات هوسرلية وللمناقشات التفسيرية التي ربما قد أثارتها. فمن خلال إعادة تفسيرها، يقترح تفسيرًا مبتكرا يشكل مفهوم العالم نقطة التحول فيه. 
ويتخذ فوكو مسارًا أقل وضوحا ويسعى جاهداً لتوضيح فيما إذا كان لدى هوسرل نظرية كاملة للمعرفة مبنية على كل ما يتعلق بجوهر الأشياء، على عكس ما يتعلق بالواقع الحساس أو النفسي، فإن هذه النظرية مدعوة للتوسع في استجواب يتعلق بمشكلة تأسيس هذه المعرفة، من خلال تحريك موضوعة البنيات. ووفقًا لقراءة فوكو لها، فإن العالم في الواقع، هو الذي يبدو بوصفه الأرضية الأساسية الحقيقية لنشأة كل الجوهر ونشأة كل الحقيقة.
تحدد هذه القراءة بعد ذلك ظهور تساؤل حول ما يسميه فوكو «الوجود»، ومن ثم تكشف عن قضايا وجودية غير متوقعة لدى هوسرل. إن التساؤل عن الضرورات الأساسية التي تحكم العالم يفسح المجال لإشكالية إمكانية وجود العالم. إذا كان هذا التفسير لهوسرل يتجاوز بلا شك رسالة النص الهوسرلي الصارمة ويدعو إلى «تجاوز فلسفة الظاهرة في فلسفة الوجود» التي لا تكاد تكون هوسرلية، والتي تتطلب صيغًا يمكن الحكم عليها وفقًا للميول الفلسفية، تظل الحقيقة هي أن إعادة قراءة نص هوسرلي تسمح لفوكو بإعطاء مضمون لمخطط وجهات النظر التي يمكن التعمق فيها في أعماله اللاحقة وإن كان ذلك بطريقة مختلفة تماما.
إن اكتشاف بأن الفكر الأكثر عقلانية لدى هوسرل ليس هو بنهاية المطاف في ظاهراتيته، ولكن هذه الأخيرة نفسها تبدو بالنسبة لفوكو المحرّر تماما، الذي يضاعف من الصيغ المبهجة، ولا يتردد في وصف الظاهراتية بوصفها «طريقة تحرير».
إنَّ صرامة التطورات الهوسرلية، وربما جفافها، المكرّسة لخصائص الوعي، والتي قد تبدو أنها تشير إلى نوع من التشديد المطلق على نحو مفرط، ليست الكلمة الأخيرة في الفينومينولوجيا. 
فهذا المطلق يعود إلى الأساس الذي يتميز بسمة «المحدودية» و «الحرية» في استخدام مفردات فوكو، مما يسمح بإضفاء الطابع النسبي على الطابع المطلق لخصائص الوعي الذي يقود هو بالذات إلى المزيد من المعطيات الأساسية التي تتميز بعدم استقرارها. 
وهذا ما يتيح لفوكو الاهتمام، ببعض فقرات أفكار هوسرل التوجيهية ليس لها وجود على الأرجح في الأصل، وتشكيل فكرة، من بعض الصيغ المبهرة، بأن العقل لا يمتلك أي أساس مطلق، وأنه لا ينطلق من أي ضرورة، ولكنه يستند الى محدودية أو، كما يكتب، أنه يتطور «على أرض الحرية».
لا يمكن إنكار استياء فوكو من قدرة الظاهراتية، بوصفها الحافز لبديهياته حول العقل وغيابه لأنه تخلى لاحقًا عن هذه الحركة الفكرية تماما. غير أن هذا التخلي لا يمكن أن يكون إلا مصدر ارتباك لأن هذا الكتاب يكشف عن أن فوكو كان متحمسًا حقًا للظاهراتية ومصممًا على دراسة جميع جوانبها، بما في ذلك الجوانب الأكثر تقنية. 
فهل شعر أن تحليلاته الجريئة ذهبت إلى أبعد من النص الهوسرلي وأن التفسير الذي كان يقترحه بدا مشكوكا فيه؟ هل يجب أن نفترض أن هذا التخلي لم يكن إلا ضررًا جانبيًا للانجذاب الذي لا يقاوم للمصادر النفسية نفسها، والانجذاب نفسه يمكن اختزاله على نحو مبتذل بتاريخ فوكو الشاب الشخصي؟، ففي الوقت نفسه الذي كانت فيه المسافة التي قطعها فوكو لاحقًا بالظاهراتية غير مفهومة، فمن المرجح أن علم الظواهر وعلم النفس يغذيان العمل المستقبلي الذي ينهض به المفسرون عن هذه الأسئلة. وبذلك، لإبقاء عمل ميشيل فوكو حيّا.
يمكن الاستنتاج أن فوكو كانت لديه وجهة نظر سلبية في الغالب عن الظاهراتية ومع ذلك، كان يكن أكبر قدر من الاحترام لفكر هوسرل، ذلك أن ظاهرية هوسرل الفلسفية تتيح له التحرر من مأزق علم النفس المسدود، فهي لم تعد تركز على الذات أو الوعي، لكنها تكشف عن نطاقها الأنطولوجي المناسب بوصفها موجهة نحو العالم.  لقد حدد فوكو من خلال تفسيره لهوسرل، مشروعه الفلسفي لأول مرة، الذي يربط بين الخبرة والموضوع والحقيقة واللغة.
 
 
 *  ميشيل فوكو الظاهراتية والتحابل النفسي، 1954-1953 - 440 ص Gallimard/Seuil