المتبنَّيات الثقافيَّة بين نسقيَّة المخبوء ومآل الواقع

ثقافة 2022/02/08
...

 ميثم الخزرجي
قلما شغلتنا السينما العربية بأفلام تتناول المسكوت عنه لتظهره علناً بصورة خالية من الرتوش أو التلميح تبعاً لأنساقٍ مجتمعيةٍ متواريةٍ تستحضر الكثير من الأغلال التي تسور الذهن أو تكبّل الواقع بكل ما يتخلله من أزمات ثقافية أو سياسية لها مردودها الواضح على أي فعل جمالي له قاعه المستمد من التحولات التي ترافق المجتمع.
ربما كان الفيلم العربي (عمارة يعقوبيان) الذي أسدل الستارة عن بعض المحرمات المستهجنة في واقعنا العربي وليس انتهاءً بالفيلم (اصحاب ولا أعز) الذي عُرض على منصة (Netflix) الأميركية المنتجة للأفلام والبرامج التلفزيونية. قبل كل شيء أود أن أشير إلى أن قصة هذا الفيلم مأخوذة من الفيلم الايطالي غرباء بالكامل (Perfect  strangers)، ومُثّل بثمانية عشرة لغة علاوة على اللغة العربية وجميعها تحمل الفكرة نفسها. منذ الوهلة الأولى شعرتُ أن أداء الممثلين كان عفوياً من دون تكلف على الرغم من تسارع مجريات الأحداث التي امتزجت مع عولمة الحياة. ماهية الفيلم تسترعي مكاشفة الفرد بعالمه الآخر المنضوي بالهاتف النقال وما يكنّه من حياة مغايرة لها بواطنها التي يمارسها بالخفاء، سبعة أصدقاء يجتمعون على مائدة واحدة لمناسبة ظاهرة خسوف القمر، لتكون هذه الظاهرة أيقونة لها دلائلها المحفّزة لتغييب الكثير من القيم التي شكلّت الطابع العام لكينونة العربي، الشاهد الاول ابتدأ عندما خلعت منى زكي (مريم) سروالها الداخلي للذهاب مع زوجها إياد نصار (شريف) كإشارة واضحة على تعرية الفرد وهذا سياق لا يقبله الشك في المألوف العربي، لتدعمها بكأس الويسكي الذي كرعته بالخفاء وعلى عجالة من أمرها، ثمة عتبات أولى تثري وتعزّز القادم بمزيد من المضامين الجدلية التي يجب أن نتوقف عندها كحالة نسقية جادة لها طقسها الشمولي بأوانها الحالي. 
تدور أحداث الفيلم في بيت جورج خباز (وليد) وهذا سياق مختلف يأتي مصاحباً للزمن التكنولوجي المعاش، في هذا البيت تتعرى الكثير من المفاهيم والرؤى لنستمر إزاءها وكأننا في واقع ألفناه، (صوفيا) الصبية التي اقتربت من الثامنة عشرة، تمارس حريتها بأكثر التفاصيل احترازاً وأدقها، كونها بلغت السن القانوني وهذا مفصل مهم مدعاة للبحث والتنقيب عن أي مجتمع يتحدث هذا الفيلم، على الرغم من كمّ التثاقفات التي طرأت لكننا أمام شكٍّ متناهي اليقين بأننا قبالة حالة من التهشيم، فبعدما عثرت والدتها نادين لبكي (مي) في حقيبتها على الواقي الذكري اشتكتها لوالدها ليقابلها بعدم التطفل على خصوصيتها!، كان المشهد بعموميته متقداً في مضمره مع طراوة الأداء وبرودته، إذ لا وجود لحالة انفعال أو سخط من الذي اعتدناه في مجتمعاتنا العربية.التقى الأصدقاء وتبادلوا القُبل مع الزوجات، أخذهم الحديث من دون صمت يذكر أو وقفة تأمل تصطنعها الكاميرا، وهذه إشارة ثانية على هوس الواقع ولوثته، كان جلوسهم على مائدة واحدة معبأ بكثير من التفاصيل الشخصية واضاءتها من قبل الزوجات، بل أشبه بعملية كشف المستور وزعزعته، أبان وصول صديقهم فؤاد يمين (ربيع) بمفرده والذي من المفترض أن يأتي مع رفيقته (رشا) لكنه اعتذر بالنيابة عنها، ابتدعت مي لعبة الهواتف النقالة حال الاتصال أو وصول مسج يكون على مرأى ومسمع الجميع، وهنا استدلال واضح لما يدّخره إنسان هذا العالم من أسرار حيال انجرافه للتكنولوجيا بصورة هائلة لتكون خصوصيته منتزعة إزاء هذا الكمين، امتعض الأزواج جميعاً إلا وليد كان أكثر كياسة، أصرّت الزوجات على مزاولة هذه اللعبة كمحاولة جادة لتثوير مزاج الجلسة بمعرفة أسرار الأزواج وما لحقتهم من علاقات مغايرة، وهذا طرح له دلائله الناجمة عن انحسار المجتمع بسيلٍ من الغرائز وكأنهم أمام رهان غريب أو استقراء عام لما آل اليه الواقع العربي، حصلت بعض من الشكوك حيال الاتصالات التي أثارت وحفّزت الأسئلة لتجابه بردود طبيعية، بالمقابل تلّقت الزوجات رسائل بعضها طبيعية والأخرى من علاقات سابقة كالذي حصل مع ديامان أبو عبود (جنا) ربما أغاضت زوجها عادل كرم (زياد) في بادئ الامر لكنه اقتنع بكلام زوجته بأنه مجرد صديق مقرّب!، في هذه الأثناء اتصلت صوفيا بوالدها تخبره بالمبيت مع صديقها، كان مصغياً لكلامها وبطريقته الناعمة التي عُرف بها أبدى رأيه بالرفض بيد أنه رمى الكرة بملعبها منوهاً لها بأنه قرار شخصي.حاول شريف أن يستبدل جهازه النقال بجهاز ربيع بعدما عرض عليه الأمر، مشيراً بأن لديه علاقة مع إحداهن ويخشى أن يفتضح أمره أمام زوجته لكنه قوبل بالرفض، خلسة وحال تغيير مدار الحديث غيّر شريف الجهاز وكله طمأنينة بأن صاحبه ليس لديه ما يخافه، الصدمة المهولة التي تعرّض لها حال استقباله رسالة توبخه بصورة مفضوحة ليباغته بالحال اتصال هاتفي من رجل يعنّفه جنسياً، حلَّ صمتٌ غريب، كانت أنظار الأصدقاء ساهمة صوبه كونه أخفى الأمر على مدار السنوات الفائتة من علاقتهِ بهم، وليس من ناحية تبنيه لهذه الظاهرة بوصفها فعلاً ماجناً، بينما كان شريف ينظر إلى صديقه نظرة حانية مبدياً له خالص التعاطف، انفجرت مريم بالبكاء لتجهر بحفنة من الاعترافات الخاصة بحياتهم الزوجية، ما يثير الدهشة، أن شريف بقي متستراً ولم يبادر بفضح ربيع كيما يذوّب هذه التهمة، ليباغتهم الأخير بأنه صاحب الموبايل ليمحو الاتهامات التي لحقت بصاحبه.كانت الأحداث تجري بتسارع غير محسوب إمعاناً لعجلة الحياة السائرة باتجاهات منفلتة، انشغل الأصدقاء بقضية ربيع، منزوياً كلٌّ منهم في مكان معين، رنَّ جهاز زياد من أحد الصاغة مستفهماً عن رأيه بالأقراط التي طلبها، تعالت الاسئلة من جنا حول هذا المضمون ليداهم زياد اتصال هاتفي من أحداهن تخبره بأنها حامل، الصفعة والبصقة اللتان تعرّض لها زياد بالخفاء من مي زوجة وليد بعد أن خلعت أقراطها كإشارة جلية بأن ثمة تواصلا خارجا عن السياق فيما بينهما. تبددت كل هذه الأحداث حال خروجهم إلى باحة المنزل معلنين الصفاء بعدما شاهدوا لحظة خسوف القمر موثقين هذا السفر بسيلفي جماعي لتذهب كل أسرة إلى منزلها بصورة وادعة دونما عناية بالذي حصل وكأنهم مارسوا شوطاً تمثيلياً استقطعوه من واقعهم المعاش مشدوهين بخصوصياتهم التي زاولوها على أتمها حال رجوعهم.
خلاصة الأمر، هل إن الفيلم مرآة لواقع له لبوساته الكثيرة أم استشراف لما سيحصل؟ أنا لا أنكر بعضاً من متبنياته التي مورست في مجتمعاتنا بصورة غير مشاعة على عكس ما يظهره، لكني أتساءل عن المآل، ربما لوّح الفيلم بإيماءة واضحة للمد التكنولوجي الذي جرف مساحة الوقت من دون أن نشعر وعصف بذهنية الفرد العربي وتغييب الخصوصية فضلاً عن إبراز الوجه/ القناع والحاقه من ضمن المسلّمات، برأيي أن ثمة محاولات جادة لإخراج ممارسات تحدث داخل المجتمع في الخفاء إلى العلن وكأنها تسعى لضرب المثالية الزائفة لبعض
أفراده.