القصيدة الحَسَبيّة والسونيت الشكسبيري

ثقافة 2022/02/09
...

  د. نادية هناوي
يعد الشاعر حسب الشيخ جعفر واحداً من الشعراء المجربين الذين تلوا الرواد واتقنوا أكثر من لغة. وهو ما ساهم في تعدد مرجعياته وغناها، وواحدة من تلك المرجعيات السونيت الذي تمسرب إلى قصيدته التفعيلية، فشكل مع غيره من المرجعيات الأخرى كالمرجعية التاريخية والميثولوجية والدينية والجغرافية والأدبية وحدة واحدة، مضيفا إلى هذه القصيدة إضافات جديدة.  
 
ونعد السونيت مرجعية من مرجعيات القصيدة الحسبية من ناحية أنه قالب مؤلف من نظام إيقاعي يلتزم به الشاعر سواء على مستوى القوافي أو على مستوى التفعيلات ومن ناحية انصهاره في هندسية القصيدة الحسبية بشكل مرن وعميق، قد لا تبين منه إلا بعض آثار وقد لا تبدو واضحة مع أن فيها مقداراً من الدلائل المؤكدة والدامغة. 
وعلى الرغم من تأثير السونيت الفني في كبار شعراء العربية المحدثين والمعاصرين حتى لا نكاد نجد من لم يقرأ السونيتات الشكسبيرية بلغتها الأصل أو المترجمة.؛ فإن القليل من الشعراء العرب من أكد أن للسونيت تأثيراً مخصوصاً في شعره. ربما لأن في القصيدة العربية أشكالاً قريبة منها تغنيان عن احتذاء ما فيها من تنوع القوافي وتعدد الأسطر كالزجل والدوبيت كما أن العرب الأندلسيين ابتكروا قبل ذلك الموشح الذي لقي في البيئة المشرقية العربية بعض الرواج وكتب فيه بعض شعراء النهضة الأدبية أو لعل السبب هو أن شعر شكسبير على الأغلب درامي كلاسيكي بينما النزعة العربية في الشعر عادة ما تكون نزعة وجدانية. ولهذه النزعة تقاليد متوارثة لا تختلف كثيرا في الالتزام الإيقاعي والتزمت الفني.
وإذا كان الشعراء المحدثون أصحاب قصيدة التفعيلة قد تأثروا بالشعر الأجنبي بنوعيه الكلاسيكي وغير الكلاسيكي عموما والانجليزي والفرنسي تحديدا. فإن جزءا كبيرا من هذا التأثر مبني على تنوع المرجعيات من دون التقيد بمرجعية واحدة بعينها. وهذا أمر طبيعي بوصف المرجعية إستراتيجية إبداعية وليست فاعلية نصية.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال نكران أثر السونيت الشكسبيري في قصيدة التفعيلة، ولقد تشرَّبت القصيدة الحسبية بنية هذا النوع الشعري لا كتناصات تلتزم بنظام السونيت الهندسي وتقتفي أثر نظامها التفعيلي القافوي وإنما كإستراتيجية هضمت فيها القصيدة الحسبية قالب السونيت ثم أعادت تمثيله شعرا تفعيليا، مستلهمة منه رومانسية الحب والطبيعة والموت ومتغنية بالزمان والجمال ميالة إلى التهكم والتساؤل مستثمرة السرد بمختلف أساليبه كالمونولوجات والحوار والمفارقة والعجيب والحلم وبنزعة ميتافيزيقية أحيانا. 
وإذا كانت نازك الملائكة والسياب وعبد الوهاب البياتي ومن جاء بعدهم قد تأثروا بشعراء رومانسيين مثل كيتس وشيلي وبايرون واديث ستويل، فإن ذلك لا ينفي تأثرهم بشعراء كلاسيكيين كعزرا باوند وت. س. اليوت وشاعر كان خارج المذاهب الأدبية الكبرى في أوربا هو شكسبير. وفرق كبير بين أن يتمثل الشاعر غيره مرجعا أو يتمثله تناصا لأنه في الأولى يتشرب المتمثل به تشربا حتى يصبح متماهيا فيه بشكل لا واع بينما هو في التناص يأخذ بشكل محدود وجزئي ما يراه مناسبا للسياق الذي يريد التعبير عنه.
ولذلك لا نجد في القصيدة الحسبية تناصات كلية أو جزئية مع قالب السونيت؛ وإنما نجد مرجعية قائمة بذاتها تتماهى معها القصيدة الحسبية بشكل عفوي، منطبعة بهيأة شاعرها الإبداعية.  
وإذا أردنا البرهنة على التغلغل المرن لهذه المرجعية في القصيدة الحسبية وعزمنا على معرفة عمق هذا التغلغل؛ فإننا سنجده متشرباً شعرياً فيها كمؤشر إبداعي. ولا أقول مؤشراً نصياً لأن الذات الشاعرة تستوعبه في ما قبل تشكل القصيدة كنص وما بعده ومنه تستقي القصيدة الحسبية بناءها ممتلكة هويتها. بمعنى أن التغلغل ليس خطاً أو تكتلا أو منحى يمكننا التدليل عليه نصيا وإنما هو تراكم ما قبل نصي يتأتى على خلفية هضم داخلي لتتم بعد ذلك عملية استرجاعه بفاعلية ما بعد نصية. 
ولكي ندلل على أن المرجعية السونيتية فاعلة في القصيدة الحسبية بخفاء ومتمشربة فيها داخليا؛ فإننا سنتناول نوعين: الأول إجمالي عام ويتمثل في:
ـــــ أن الشاعر حسب الشيخ جعفر كما شكسبير مأسور بشعرية حضارتين غابرة وعصرية، وعربية وأجنبية.
ــــ أن امتزاج المؤثر الغربي بالمؤثر الشرقي ولّد في الشاعر مغايرة حداثية هي بمثابة تنويع في قصيدة التفعيلة تماما كالسونيت الذي أوصل شكسبير إلى التجديد الشعري.  
ـــــ النزعة الجمالية في القصيدة الحسبية المشوبة بمشاعر وجدانية وصوفية متشائمة تفيض باللوعة والأسى هي النزعة نفسها في السونيت الشكسبيرية.
إن أهم مؤشر من مؤشرات تغلغل الإيقاع السوناتي في القصيدة الحسبية هو التدفقية في التفعيلة التي تتعدد داخل الأسطر فتطول أو تقصر بحسب ما يستدعيه الإيقاع واكتمال البناء السردي.
وإذا عدنا إلى الشعر السومري لوجدنا جذور هذه التدفقية السردية في البنية الإيقاعية حاضرة كأوزان مرهونة باكتمال العنصر السردي فيها. وما بين التدفق والاكتمال تتحقق جمالية الإيقاع الشعري اعتمادا على وجود التفعيلة التي لا تتقيد بعدد معين داخل السطر الواحد أو مجموعة الأسطر.. بيد أنه مع تقادم الزمان تحولت هذه المرونة إلى قوالب وصار عدد التفعيلات محسوبا وغدا الشعر لا يكون شعرا إلا إذا التزم بعددية محسوبة بصرامة وزنية. وغاب عن البال أن السرد له إيقاعه وإن التداخل بين السرد والشعر والغناء والدراما أمر حاصل إبداعيا فصلا ووصلا. 
ويحتل أسلوب الفصل والوصل مكانا مهما في السونيت بسبب ما تقتضيه البنية السردية في تشكيل كل مقطع من مقاطعه الثلاثة، ومنها هذا المقطع من السونيت الثاني من سونيتات شكسبير وفيه الجملة السردية عبارة عن محاورة فيها السارد يخاطب شابا، محذرا إياه من تقدم العمر، راسما لتقدمه صورة استباقية وقد صار كهلا وبانت عليه التجاعيد، فيكون السطر الأول مكتملا إيقاعيا لكنه مقطوع دلاليا مما يتطلب وصله بما بعده ليكتمل البناء إيقاعا ودلالة:
Then being ask d where all thy beauty lies,
Where all the treasure of thy lusty days,
فإذا ما سئلت عن مكمن حسنك بأكمله،
وعن كل كنوز أيامك الشبقة، 
ونجد الفصل والوصل حاصلا في السونيت السابع حيث الصلة بين الفعل converted في نهاية السطر الأول والصيغة الاسمية his low tract  في السطر الثاني صلة دلالية تضمينية:
The eyes, fore duteous, now converted are
From his low tract , and look another way:
والعيون التي كانت مذعنة لها من قبل ، تتحول الآن 
عن مجراها المنحدر، متجهة بنظرتها إلى طريق آخر: 
وقد عرفت القصيدة العربية الكلاسيكية والحداثية الفصل والوصل، ووظفه رواد قصيدة التفعيلة أيضا لكنه لم يكن ليمثل عندهم مهيمنة أسلوبية. من أمثلة ذلك هذه الأسطر من قصيدة (في السوق القديم) للسياب وفيها نجد أن الوصل ضروري بين الاسطر مع أن كل سطر مكتمل إيقاعيا:
( أنا سوف أمضي فاتركيني: سوف ألقاها هناك
عند السراب
فطوقتني وهي تهمس : " لن تسير")