خَيرُ القُرون.. كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟

ثقافة 2022/02/09
...

 د. عبد الجبار الرفاعي
علي الديري ينطلق من سؤالين كبيرين لم يفكر فيهما من كتب علومَ الحديث وصنف مجَاميعَ الحديث. ‏السؤال الأول عن مقولة {خير القرون} الحديثية، والسؤال الثاني عن {الإسناد}. لم يبحث التفاصيل والفرعياتِ والصغريات، بل ذهب للأسئلة الكبيرة، وبتعبير أهل المنطق الأرسطي ذهب مباشرة للكبريات، فدرسَ {الإسناد، وخيرَ القرون} بوصفهما أيديولوجيا مؤسسة المعرفة الدينية المرتهنة لمؤسسة السلطة.
 
لو كان الديري يقرأ التراثَ بعيون أهل التراث لن يحضرَ في ذهنه هذان السؤالان، ولن يصل إلى إجابة علمية عنهما‏. 
الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة لم نقرأها في التراث وعلوم الحديث، بل نقرأها في أعمال ميشيل فوكو، ومن قبله نيتشه. في حفرياته المعرفية استطاع فوكو أن يكتشف الصلة العضوية بين المعرفة والسلطة، وخلص إلى أن كلَّ سلطة تنتج معرفةً من جنسها وتحميها، وكلَّ معرفة تنتجُ سلطةً من جنسها وتحميها. 
  في كتاب "خَيرُ القُرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟" ناقش الدكتور علي الديري نشأةَ "الإسناد" وتطورَه، بما هو أحد الركائز المحورية في علوم الدين التراثية، ولم يدرس الدورَ التأسيسي للإمام الشافعي "150 – 204 هـ" ببناء هوية دينية لـ "الإسناد"، لأنه ما كان بالإمكان أن يحتلَ "الإسنادُ" هذه المكانة في التراث لولا ما قام به الشافعي من إضفاء المشروعية الدينية على "الإسناد" وتشييد أركان حجية "خبر الواحد"، واعتماده معيارًا أساسيًا في قبول الحديث، والاستناد إليه بشكل واسع في عمليات الاستنباط الفقهي. 
  منذ الشافعي كان ومازال أهم مبحث في أصول الفقه، يجري توظيفه بشكل واسع في الفقه هو "خبر الواحد"، بوصف هذا الخبر هو المنبع الأغزر لعملية الاستنباط الفقهي، والركيزة الأساسية لبناء ونمو وتطور المدونة الفقهية. 
لولا القول بحجية "خبر الواحد" وبناء علماء أصول الفقه عموديًا وأُفقيًا على ما أسسه الشافعي لما كان الفقه يتسع ويأخذ هذه المساحة المتضخمة، بالشكل الذي ضمر فيه وانحسر بالتدريج حضورُ الأبعاد الأخرى في الدين. لولا الاستعمال الواسع لخبر الواحد لما استُبعِدت مرجعية القرآن الكريم، وأُهمِلت دلالات أكثر آيات القرآن الميتافيزيقية والروحية والأخلاقية والتربوية.
  رأي الشافعي كان أحد الآراء في خبر الواحد، غير أن رأيه فرض حضوره الحاسم، واستُبعِدت آراء أعلام تجاهلها الأصوليون عمدًا، حتى تم نسيانها وكأنها غير موجودة. كان النظّام وغيرُه لا يقبل خبر الواحد، كما أورد أبو الحسين البصري في المعتمد في أصول الفقه: "قال أكثر الناس إنه لا يقتضي العلم، وقال آخرون يقتضيه، واختلف هؤلاء فلم يشرط قوم من أهل الظاهر اقتران قرينة بالخبر، وشرط أبو إسحاق النظّام في اقتضاء الخبر العلم اقتران قرائن به، وقيل إنه شرط ذلك في التواتر أيضاً". و"روى الجاحظ في كتاب الأخبار أيضاً، عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام، أنه قال في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكيف يجيز السامع صدق المخبر، إذا كان لا يضطره خبره، ولم يكن معه علم يدل على صدق غيبه، ولا شاهد قياس يصدقه، وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة العلل التي يكذب الناس لها ودقة حيلهم فيها، ولو كان الصادق عند الله لا يكذب، والأمين لا يخون، والثقة لا ينسى، والوفي لا يغدر، لطابت المعيشة، ولسلموا من سوء العاقبة"، وهكذا قال الماوردي: "الأصم وابن عُليَّة منعا من خبر الواحد"، لكن عدمَ قبول النظّام والأصم وابن عُليَّة وغيرهم لخبر الواحد لم يؤثر على العمل به واعتماد حجّيته التي شيّدها الشافعي. موقفُ السلطة واحتضانها ودعمها لمتكلم أو أصولي أو فقيه أو مفسر أو مُحدِّث كان على الدوام هو الموقف الذي تتسيّد فيه آراؤه، وتتحول إلى سلطة تمتلك المشروعية دينيًّا وتنفيها عن غيرها، ويجري ترويج مؤلفاته وتبنيها في التعليم الديني، بغض النظر عن صواب تلك الآراء وعقلانيتها وتماسك براهينها.
  كما لم يتسعَ كتابُ "خَيرُ القُرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟" لدراسة السلفية، بما هي حاله متفشية في كلِّ الأديان. ركزَّ المؤلف على السلفية المتلفّعة بجلباب ابن تيمية، وكان عليه أن يشير إلى أن ليس هناك فرقٌ نوعيٌّ بين الاتجاهات السلفية للأديان والفرَق والمذاهب، سواءٌ أكانت سماوية أو 
أرضية. 
تتنوّع الأقنعةُ السلفية وتتعدّد إلا أن المضمونَ المتشدّد واحدٌ أيًا كان دينُ السلفي ومعتقده. السلفية كالأصولية والتراثية، مهما تنوّعت التسميات، تعكس تصورًا لا زمانيًا للعلوم والمعارف والهوية، ورؤية خاصة للعالَم، وبنيةً فكرية وعاطفية وسيكولوجية، وقراءةً حرفية مغلقة للنصوص. أقصدُ بالسلفية طريقةَ تفكيرٍ ورؤيةً للعالَم لا تنتمي للواقع، لا أقصد دينًا معينًا أو مذهبًا خاصًا أو فرقةً بذاتها. السلفيةُ كأنها وعاءٌ يمكن أن تشغله أيةُ أيديولوجيا وعقيدة، سواء أكانت دينيةً أو ماركسية أو عرقية. المواقفُ متشابهة، كلُّ سلفي مغلَق، بغضّ النظر عن عقيدته والأيديولوجيا التي تحرّكه، كلٌّ منهم يشعر بالاصطفاء لمعتقده وتراثه وهويته وماضيه 
وجماعته.
  لعل أدقَّ تصوير لرؤية السلفي للعالَم هو ما كتبه هربرت جورج ويلز في قصة "بلد العميان" الصادرة سنة 1904، التي شرح فيها مصيرَ جماعةٍ من البشر معزولين عن الناس، يعيشون في وادٍ تحتضنه جبالٌ منيعة، يتفشى بينهم مرضٌ يفتك بأبصارهم، يتوارثُ هذا المرضَ الأبناءُ من الآباء، ويحيل الكلَّ إلى عميان. بعدَ أن يختفي من حياتهم البصرُ نهائيًا يموتُ المعنى الذي يدلّ عليه البصرُ في أذهانهم. 
عندما يصيرُ العمى شاملًا يترسّخُ حضورُه بما هو معنىً لا مقابلَ له ينفيه، فيشعرون جميعًا أن العمى هو الحالة الطبيعية، وأن واديهم هو العالَم الذي لا عالَم خارجه. 
التربيةُ السلفية في الأديان تجعلُ الإنسانَ يُضحّي بالحاضر والمستقبل من أجل ماضٍ رومانسي متخيَّل لم يتحقّق أمس، ويعتقد بأن وظيفتَه استئنافُ الماضي كما رسمته المخيلة، ومناهضةُ كلّ شيءٍ لم يقع في الماضي لأنه ابتداعٌ. 
لا يحدثُ تطورٌ في حياة المجتمع من دون إبداع، فإذا كان كلُّ إبداع ابتداع كيف يتطورُ المجتمع. التربيةُ السلفية تُشعِر مَنْ يتشبّع بها وينحبس في إطارها بأنه الوكيلُ الحصريّ للحضرة الربوبية، والسلطانُ المتوّج بعناية إلهية استثنائية، والحاكمُ المفوّض بتفتيش الضمير الديني للناس ومعتقداتهم. 
يورّطُ هذا الشعورُ السلفيَّ بإصدار حكمه على مَنْ يشاء، يُدخِل للدين مَنْ يشاء، ويُخرِج من الدين مَنْ يشاء. وأحيانًا يقوده هذا الشعورُ لاستخدام العنف مع مَنْ يشاء، سواء أكان عنفًا لفظيًا، أو رمزيًا، وربما جسديًا.
  لا أريد أن أستبق القارئَ وأختطف منه بهجةَ الاكتشاف، لذلك لم أقدّم عرضًا وتلخيصًا لمحتويات الكتاب. 
أنا كقارئ أتلذّذ بكل ّكتابة ثمينة أتعلّم منها، أو تثير في ذهني أسئلةً جديدة، أو تدعوني لإعادة النظر بواحدةٍ من قناعاتي، وتقوّض شيئًا من وثوقياتي. 
يكتشف القارئُ الخبير بالتراث أن هذا الكتابَ ينقله إلى أُفقٍ بديل لم يألفه في كتابات مماثِلة طالعها من قبل، ويضعه في مواجهة أسئلة منسية، ورؤى مختلفة، تجعله يُسائل قناعاتِه حيالَ التراث ويعيد النظر بجزمياته، إن قرأ هذا الكتابَ على مَهَلٍ وبتأمل.