قاموس الكراهيَّة

ثقافة 2022/02/12
...

 محمد يونس محمد
 
هناك سبب وجيه للفصل بين نمط كتابة وآخر.. إذ تختلف الكتابة - التي يكون فيها العالم ومعانيه الجديرة هو المثال- جذرياً عن كتابة الذات الشخصية، حيث يكون المؤلف هو الضحية أو البطل وربما التاريخ، وهو أيضا القيمة المعنوية والجوهرية والشكلية المظهرية لنصه.. وهذا تناقض واضح مع أعراف الكتابة الإبداعية، فالذات الكاتبة ليست هي المثال الأدبي، إلا إذا أعيد انتاج المضامين الشخصية بالصورة التي يتجرد فيها المؤلف عن أناه. 
وبما أن الذات الشخصية، حسب التحديد المنطقي، ذلك الجزء من أفق الوجود الحي العام، وأن هدف التعبير الأدبي عنها هو ملامسة ذلك الافق، فسيكون هناك موازاة للتاريخ، وملازمة لمؤشر الواقعية، لأن المؤلف ليس التاريخ، بل أن اقتباس أو استعارة التاريخ من الأمور الطبيعية. 
 لا يمكن للأنا أن تكون هي ذاتها المثال التاريخي العام، لأنها استعارة من نفسها لنفسها، بينما يكون العكس هو الصحيح، فدستوفسكي الذي بقي يومين في كنيسة يتأمل تمثال النبي عيسى حتى يتشبع بالمعنى الديني، هو المثال لتلك الصيغة المثلى في أن تسخر الأنا لاكتساب المعنى الجدير من الحياة وليس منها شخصياً. 
العالم هو الدلالة الكبرى وذواتنا دلالات صغرى، وأن استيعاب الدلالة الكبرى جدير بالمضامين الأدبية المتعددة، وتفسير المعنى الأدبي يمكن من خلال الدلالة الصغرى المنتمية للعالم وليس للذات الشخصية. فأنت الجرم الأصغر الذي من الممكن أن تكون المثال للوجود العام أي عبره وليس من خلالك، وأنت المؤلف ولست القضية أو الفكرة أو الموضوعة، وإذا كنت أنت المادة الأدبية، وأنت الوجود الحي، وأنت المعنى، إذاً فلن تحتاج المادة الأدبية إلى تفسير لأنها مفسرة بذاتها. 
المضامين الأدبية التي ينتجها الوعي تختلف قطعاً عن المضامين التي تنتجها الذات الشخصية، فالوعي يراهن على الحس الإبداعي، بينما الأنا تراهن على معناها الشخصي، والمراهنة على الحس الإبداعي في السعي لخلق القيم النوعية التي تسمو جمالياً، وتراهن على المضامين التي قد تثلم الدلالة وتعيد انتاجها، فالأدب في اختلافه يسمو على المتعارف، وهو نشيد الأديب للحياة وليس لشخصه، وكما إن الأدب في التفسير المنطقي والموضوعي هو ليس الخطاب، إذ إن للخطاب مرجعيات بشرية، لكن الخطاب الذي نعنيه هو تلك الشفافية المرنة الساحرة والبلاغة الجديرة لا تلك الذات الصلبة. 
ثمة فارق كبير بين المعنى الأدبي في الذات والمعنى الاجتماعي، وهما يمكن أن يكونا في المعنى الشامل للأدب، لكن إذا تحولت الذات إلى كائن ورقي، أي يمكن حتى أن تطوى، تكون هنا متخلية عن أفقها الشخصي للمعنى النوعي للحياة. 
صراحة ثمة تضخم للذات ينمو ويكبر عند الدخلاء على الأدب الحقيقي، والتضخم بصور مريرة أحيانا، حيث يتصاعد إيقاع الأنا لتسحق بأقدام التضخم على الورود بلا اكتراث، وتلك الصيغ التي يتدنى فيها النفس الابداعي هي أشبه بقواميس للكراهية.