آرنو غايغر طفل القرن العشرين

ثقافة 2022/02/12
...

  إسكندر حبش*
من قال بأن لا حق لدينا لكي - نقطع مع - البركة العائلية؟ فأصولنا تبدو أيضا مطرقة ثقيلة نحملها معنا، لأن هذه العائلة لا تنقل إلينا، من جيل إلى آخر، سوى الرسالة التالية لا تعتقد أبداً بأنك سيّد نفسك ومصيرك، إذ ثمة الكثير من 
الأمور - فيك والمحيطة بك - محددة سابقاً. 
 
من - هنا - الرغبة المفهومة المبرّرة بمعنى من المعاني بأن نترك ذات يوم، كلّ شيء وراء ظهرنا لنعود وننطلق من الصفر. لكن - ولكي - ننجح في مقاومة هذه التركة لأصولنا العائلية علينا أن نتمتع بصفتين نادرتين: التواضع والوعي الحاد بالذات.
فيليب إيرلاخ البطل المضاد لرواية «إننا بخير» وهي رواية عائلية وتاريخية من النمسا لا نجده يملك لا هذا التواضع، ولا هذا الوعي بالذات. إنه طفل حقيقي لهذا العصر الذي نعيش فيه. كاتب فاشل لا يحب الحركة يهمل نفسه وغير مستعد أبداً لتحمل هذه التركة. إنه ومثلما تصفه صديقته وهي فتاة جد معاصرة بدورها، عائلياً من دون طموح. ومع ذلك يرث فيليب منزلاً كبيراً يقع في حي سكني يدعى هايتزينغ في فيينا. منزل كان لجدّيه اللذين لم يكونا شخصين عاديين.الجدّ، ريشار، ولد العام 1900 مسيحي اشتراكي (اليمين الكاثوليكي)، كان يملك الوسائل اللأزمة للاختباء ولكيّلا يلاحظه أحد العام 1938 (خلال الأنشلوس)، مثلما عرف جيداً كيف يتدبر أموره بعد الحرب (الحرب العالمية الثانية) حتى أنه عيّن وزيراً قبل أن يتمّ استبعاده مع بداية الستينيات.
لا شيء يثير فيليب فعلاً في هذا البيت الذي كأنه سقط على رأسه. لا لأنه بيت قذر وكئيب، بلّ لأنه مليء بالتاريخ.. تاريخ القرن العشرين المأساوي المليء بهذا الموكب الكبير من المآسي والآلام. لقد نجح الجدّان في تجاوز ذلك كله إلا أن الجيل الوسطي، أيّ جيل والدة فيليب وخاله لم يعرف كيف ينجو من السقوط في ذلك كله. 
أين فيليب من ذلك كله؟ لم يفكر يوماً بمعنى هذه العبارة: الأموات يحيون معنا. بهذه الجملة تبدأ رواية آرنوغايغر. وبما أن فيليب لم يفكر فيها مطلقاً انتهى به الأمر بأن يسقط في قلبها. ومن هنا نجده يمضي ويهرب مع العاملين اللذين طلب منهما أن ينظفا السقيفة ليترك العائلة كلّها خلفه، ليختفي إلى الأبد. 
بيد أن «خالق» فيليب (أي الكاتب) يبدو واضحاً خلف شخصية بطله المضاد. تأتينا صورته على شكل نتف مبعثرة هنا وهناك خلال النص. يدفع بطله إلى القيام بما عليه القيام به. ينحني فوق تاريخ هذه العائلة النمساوية في القرن العشرين. يُسيطر بشكل كلّي على موضوعه قافزاً من عشرية الى أخرى من دون أي مجهود يذكر، ليتوقف أحياناً في الثلاثينيات، وأحيانا في السبعينيات، لكنه يعود دوماً إلى بداية القرن الواحد والعشرين، وتحديدا إلى العام 2001 الذي يشكل نقطة الارتكاز في هذه الرواية.
يقدم الينا آرنوغايغر (مواليد العام 1968) عملاً كبيراً ذا حدثٍ متماسكٍ، ذا قوةٍ أسلوبيةٍ متماسكةٍ، وذا ذكاءٍ لا يمكننا إلّا أن نقف أمامه مدهوشين. على الأقل ثمة سؤال لا بد أن يطرح نفسه، كيف يمكن لشخص لم يتجاوز الأربعين (حين نشر الكتاب بالألمانية) أن يملك هذا الفهم المتكامل لذهنية العديد من شخصياته المختلفة والتي تمتد على أجيال ثلاثة؟ كيف استطاع أن يجد هذه اللغة التي سمحت له بأن يكتب مختلف هذه الحالات التي تعاني منها الشخصيات: رؤى جده المتسلط البطريركي حالة جدته الغارقة في مفهوم المرأة الثائرة، ولداهما اللذان كبرا في عقلية وتفتح أفكار السبعينيات؟، من هنا قد يبدو الأمر مدهشاً وبخاصة حين تقارنه بروايات نمساوية أخرى، إذ يغرق روائيو تلك البلاد في تحديدات معينة لا يعرفون كيف يتخلصون منها، وبخاصة تلك التي حاولت أن تستعيد فترة الحرب العالمية الثانية.
لكن الأهمّ في رواية آر نوغايغر هذه معرفته كيف يخنق كل الجدالات التي تبدو ممكنة على الرغم من إضافة رؤيته الواضحة لتلك الفترة التي سقطت فيها النمسا في الفاشية والنازية. 
لذلك نستطيع القول إن الرواية النمساوية لفترة ما بعد 1945 قد نجحت أخيراً في الوصول إلى سنّ الرشد من دون أن تسقط في الكليشيهات الحنينية. فهو يرسل شخصياته وكأنها مخلوقات لم تتوقف عن الانحلال منذ العام 1914 وبعيداً عن أيّ عملية تصفية حساب نجده يعتبر أن الهدوء الغاش الذي عرفناه (في النمسا) خلال الخمسينيات بمثابة محاولة لتكملة العيش مثلما بقيت عليه الأمور بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا ما نجده أيضاً عند العديد من العائلات البورجوازية الألمانية. 
ربما تكفي هذه المحاولة التحليلية التاريخية لتجعل الرواية ناجحة. وإذا أضفنا إليها موهبة الكاتب في إعادته إحياء تلك الأزمنة المشتهاة، فبالتأكيد نحن أمام كتاب جميل يجعلنا نطرح الكثير من الأسئلة. 
ربما هنا يتلخص دور الأدب الكبير: أن نطرح مزيداً من الأسئلة، لا أن نجد أجوبة.  
* كاتب لبناني