القصبة تتعطَّر بأنفاس أصحابها

ثقافة 2022/02/12
...

 مرتضى الجصاني
 
ذكر الموسيقار العراقي نصير شمة في حديث له عن العلاقة بين الخشب والعازف أن الموسيقار الكبير منير بشير طلب منه ذات مرة أن يعزف على عود شمة، وحدث ذلك فعلاً يقول شمة: «عندما سمعت صوت عودي أثناء عزف منير بشير وجدته صوتاً يختلف عن نَفَس نصير شمة، كذلك لا يشبه نكهة عزف منير بشير)، وهو الأمر الذي حدث مع نصير عندما عزف على عود الكبير منير بشير بحيث يخرج صوت لا يشبه أحد منهما.
الحديث ذاته مع أدوات الخط حيث أجمل وأفضل الأدوات هي التي يصنعها الخطاط بنفسه ولنفسه لتتلاءم وتتناسب وتتناسق مع أصابعه وكفه وطريقة كتابته التي يجد نفسه مرتاحا فيها. كذلك تتناغم مع نفسه في كل جرة حبر لتقطر القصبة بأنفاس صاحبها وتخرج على الورق كتابة تشبه إلى حد بعيد صاحب الكتابة. وهذا يمكن تفسيره وملاحظته في كتابات الخطاطين الأقدمين، إذ نجد بعض اللوحات لا تحتوي على توقيع الخطاط، لكنها تحتوي على روحية ونفس الخطاط في كل حرف وتفصيل وتشكيل من اللوحة.
يمكن ملاحظة ذلك جلياً في لوحات سامي أفندي وحليم وحامد الآمدي وهاشم البغدادي وأيضا عباس بغدادي، الأمر لا يقتصر على مجرد أسلوب للخطاط بل هو تناغم روحاني بين الخطاط وأدواته التي يصنعها بنفسه إذ من الممكن أن نجد الروحية تختلف إذا استخدم خطاط آخر الأدوات نفسها من حيث طريقة مسك القلم وقط القصب أو زوايا تحريف القلم وانغماس القصبة في الحبر وما إلى ذلك من تفاصيل. وهذا الأمر لا يقتصر على القصب والخشب من الأدوات التي تكون قريبة من روح الفنان، كذلك الأمر بالنسبة للشاعر والأديب وغير ذلك من صنوف الفن. ولكن على ما يبدو أن الخشب والقصب له روح الكائن النباتي الحي وعطره، وهو شيء لا شك أنه روحاني محسوس غير ملموس يتكون مع عمق التجربة الفنية نفسها.. فأقلام الخطاطين الكبار تمتزج فيها وعلى مساماتها بصمة الفنان وروحه وأنفاسه.. وهذا كله يتخلل ويجد طريقه إلى روح القصبة فتخرج وكأنها جزء من الفنان نفسه.  
هكذا كانت أدوات الكبار من فناني الخط، إذ كان الخطاط العثماني الكبير حامد الآمدي يشد القلم بأصبعه منعاً لأي اهتزاز في الحرف ويقطع نفسه مع كل سحبة قلم حتى لا يؤثر على سريان وانسيابية الحبر من خلال القصب. 
في هذا الجو الروحاني يتربى الخطاط على عالم صوفي يتماهى مع الأشياء ومكوناتها ويتربى على احترام الأدوات، وكأنها كائنات لها أرواح تنطق وتحزن وتفرح ويتعكر مزاجها. 
أيضاً يحدث ذلك مع كل حالة يعيشها الفنان، وهذا التعايش على مدى سنوات من التصوف في محراب الخط يخلق نوعاً من الحب والتعويد والارتياح إلى شكل وحجم الأدوات ونوعية خاماتها من جودة القصب والحبر والورق وطريقة التعامل مع كل هذه التفاصيل.