مقاربات في المفاوضات النوويَّة

آراء 2022/02/13
...

 محمد صالح صدقيان 
لا أريد مناقشة نتائج المفاوضات النووية الجارية حاليا في العاصمة النمساوية واحتمالاتها، لأنها مهما كانت فانها لن تكون علی مقاساتها لأن المراوغة وعدم المصداقية الغربية هي الحاكمة في عالم لا يعرف الا لغة القوة والمصالح والالتفاف علی القوانين والشرعية الدولية. لا أريد ذلك لأني أهم أن العقدة في منطقة الشرق الأوسط هي "اسرائيل" وأن الاتفاق مع ايران اذا لم يمر عبر النافذة الاسرائيلية، فإنه سيأخذ المصالح الاسرائيلية بنظر الاعتبار.
 
لا أريد مناقشة ذلك بقدر ما أريد إيجاد مقاربة أولية لنتائج المفاوضات، التي دخلت فيها ايران لأكثر من عشرين عاما، ودلالات هذه المفاوضات التي تخوضها دولة شرق اوسطية مع مجموعة دولية مؤلفة من الاعضاء الدائميين في مجلس الامن الدولي.
لم يتحدث تاريخ الدبلوماسية الدولية منذ انشاء عصبة الامم عام 1920 ومجلس الأمن الدولي عام 1945 عن مفاوضات مارثونية بين الدول الكبری مجتمعة وبين دولة أخری لا تعترف بهيمنة أي من هذه الدول علی المجتمع الدولي.
في العام 1997 بدأت مفاوضات ايران مع الترويكا الأوروبية علی خلفية البرنامج النووي الايراني، بعدما لمست الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عهد مديرها انذاك محمد البرادعي وجود تطور مذهل في البرنامج الايراني خارج أعين هذه الوكالة؛ تطور الامر الی أن تشكلت المجموعة الغربية 5 + 1، وهي اعضاء مجلس الامن الدولي، اضافة الی المانيا لتدخل في حوار مع ايران عام 2013، ليتم التوصل في ما بعد لخطة العمل المشترك التي سميت بالاتفاق النووي عام 2015، قبل أن يقوم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بعمل متهور بالانسحاب من هذا الاتفاق عام 2018. لكن الرئيس الحالي للولايات المتحدة جو بايدن طلب العودة للمجموعة بعد أن اعتبر الانسحاب "خطأ فادح" .
هذا الحراك السياسي والتقني لم يعد انتصارا دبلوماسيا ايرانيا بقدر ما هو انتصار للمجتمع الدولي للاسلوب الدبلوماسي، الذي اعتمدته المجموعة الغربية مع أحد اعضاء منظمة الأمم المتحدة لمعالجة قضية وضعت في الفصل السابع من منشور هذه المنظمة. لا أدري إن كانت هذه الخطوة مدروسة مقدما بحسن نية، أم أنها مفروضة علی خلفية السياسة التي انتهجتها ايران في تعاطيعها مع ملفاتها المتنوعة والشائكة والمعقدة؛ وتوظيف أوراقها السياسية والامنية والتقنية من أجل تحقيق أهدافها. 
هذه المفاوضات المارثونية حملت مفاصل حساسة ساهمت ايران بصياغتها من أجل الوصول الی اهداف محددة مسبقا. أول هذه الاهداف العمل علی كسب اعتراف المجتمع الدولي بأحقية ايران في الحصول علی "الدورة الكاملة للتقنية النووية"، وهذا ما تمَّ الحصول عليه في الاتفاق النووية الموقع عام 2015.
ثاني هذه الاهداف؛ اشراك الدول المتقدمة في الصناعات النووية في البرنامج النووي الايراني، الامر الذي جعل ايران تدخل "النادي النووي" العالمي وهو هدف كانت ايران تتطلع لتحقيقه.
الهدف الاخر؛ إن ايران رأت أن المفاوضات التي دخلتها مع الدول الكبری، يجب أن تستمر بهذا الإطار دون القبول لاي طرف اخر بالدخول فيها. صحيح أنها قالت إن المفاوضات نووية وترتبط بالبرنامج الايراني ولاتخص اي طرف اقليمي اخر، لكنها في ذات الوقت أرادت أن تكون المفاوضات مغلقة بينها وبين اعضاء "نادي الكبار"، وهي نقطة تنسجم مع ما يفكر به الايراني من حضارة وتمدن تُختزن في ذاكرته وتاريخه وتطلعاته.
الهدف الرابع؛ قالت إنها لا تجلس بشكل مباشر مع الجانب الاميركي، الذي انسحب من الاتفاق وفرض عقوبات اقتصادية موجعة، لأن الولايات المتحدة كما تعتقد طهران لم تعد عضوا في المجموعة الغربية ويتطلب الجلوس معها بشكل مباشرة العودة للمجموعة، ولذلك بقيَّ الوفد الأميركي، الذي رأسه روبرت مالي في مكان اخر يتفاوض عبر وسطاء وهي حالة لها رمزيتها، اضافة الی عدم انسجامها مع الهيمنة الاميركية وسلوكها مع المجتمع الدولي. 
الهدف الخامس؛ إن ايران رفضت مناقشة منظومتها الصاروخية علی طاولة المفاوضات، لاعتبار يتعلق بالقوة الدفاعية الايرانية، التي لا يمكن وضعها علی طاولة الحوار. وهذا ما حدث. بل أكثر من ذلك أنها قامت باجراء تجارب علی صواريخ بالستية جديدة اثناء المفاوضات، سواء في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، او في عهد الرئيس الحالي ابراهيم رئيسي، ولسان حالها يقول "من أراد التعامل معي فهذا امري الواقع المرتبط بقوتي الدفاعية وايدويولوجيتي العابرة للقارات".
الهدف السادس؛ إن ايران قالت إنها غير مستعدة لبحث اي قضية اخری غير الاتفاق النووي علی طاولة المفاوضات بما في ذلك علاقاتها مع الإقليم؛ بل ان المرشد الايراني الاعلی قال ذات مرة ان لدی ايران اصدقاء في المنطقة، وان ايران لا تسمح بتضعيف اصدقائها او الهجوم عليهم او النيل منهم وهي رسالة حافظت عليها حتى 
الآن. 
هذه الأهداف التي ارادت ايران تحقيقها دفعت من اجلها المزيد من الضرائب، لكنها نجحت في نهاية المطاف من ترويض المجموعة الغربية التي تجلس علی الجانب الاخر من الطاولة . 
لا أعتقد أن ايران ستصل الی تحقيق كامل أهدافها وفق مقاساتها في هذه الجولة من المفاوضات، لكنها بالتأكيد تسير وفق برنامج وتصور، وضعته القيادة الايرانية للتعاطي مع التطورات ينسجم مع الفراغ الامني، الذي تشهده المنطقة ومع آفاق التطورات السياسية والامنية والاقتصادية التي تجری في هذه المنطقة والعالم بعد مرحلة 
كورونا.