المأزق الميثودولوجي في هَرْمَنطَقَةِ النصِّ الديني

ثقافة 2022/02/15
...

 محمد حسين الرفاعي
 
 
(1)
ضمنَ التَّساؤل عن الهرمنيوطيقا من جديد، أو في ضرورة التفسير في كل مرَّةٍ، من خلال النظريَّات والمناهج الحديثة، علينا أن نتساءل عن إمكان تجاوز المأزق الميثودولوجي الذي يتمثَّل في: من جهةٍ ضرورة التحديث، وإمكاناته الأكثر أهميَّةً في إعادة بناء الفهمِ بالنص، تاريخانيَّاً؛ ومن جهةٍ أخرى، التناقض البنيوي بين أرضيَّة ميتافيزيقية للنص الديني في الإسلام، وأرضية وضعية (مادية) للنظريات والمناهج الحديثة، وما بعد الحديثة. 
 
(2)
تدرس المعرفة الحديثة [الـ- ما- ظَهَرَ]، و [الـ- ما- وَقَعَ].
وفي هذه الحال هي تستنبط (من الاستنباط Deduction) الظاهرة، وتستقرِئُ (من الاستقراء Indaction) الواقعة.
وإذا كانت الظاهرة تتوفَّر على ماهيَّة تسحب التَّساؤل الفاهِمِ إلى داخلها، عَبرَ الحدس، والاستنباط القائم على قابلية الدحض Falsifiability، فإنَّ الواقعة تأتي إلى مستوى [في- الأمام] عَبرَ صيرورة وقوعها، والاستقراء القائم على التعميم الخاصّ الذي يوفِّرُ إمكان تحديثه وتجديده في كل مرَّةٍ يدرس فيها
الواقعة.
 
(3)
في تصريح إشكالي، تضع “نظريَّة الرؤيا” محمَّدا في موقع الفن- والفنَّان. لا يفترض، بل يفهم عبد الكريم سروش محمَّدا على أنَّه فنانٌ.
إنَّه شاعرُ الفنِّ والرؤيا، وفنَّانُ الشعر والرؤيا.
شرطَ أن يُؤخَذُ محمَّدٌ على أنَّه الفنان من جهةِ ماهيَّة النص الفني؛ وقد صارت مُحدَّدَةً بحدين اثنين: حدُّ الإستطيقا ما بعد الحديثة، التي تتقوَّم بالتعدُّد، في كلِّ مرة، وتستمد قانونها الخاصّ من ذاتها، وحدُّ الهرمنيوطيقا الحديثة التي تقف على أرضيَّة [لا- نهائيَّة- الفهم] في العلاقة بالنَّصِّ الفني.
 
(4)
إنَّ النص، والحال هذي، في الحقيقة، يريد أن يذهب إلى أن يكون في العالَم على نحو فنِّي.
إنَّ الفنَّ في منبت ماهيَّتِهِ إنَّما هو جذرُ الشعوريِّ الأصليّ.
إنَّ الفن قد صار، على نحو إستطيقي، ماهيَّة النص.
كيف يحدث ذلك؟
ولماذا يحدث ذلك على هذا النحو بالذات، دون غيره، عند عبدالكريم سروش؟ 
(5)
يريد عبدالكريم سروش أن يبحث عن، وفي كيفية بناء النص، ولا يريد أن يبحث في ماهيَّة النص.
إنَّه يريد أنْ يقول إنَّ النصَّ إنَّما هو نتيجة ونتاجُ رؤيا قد حدثت وأتت إلى مستوى الكَلِم.
إنَّ الرؤيا، وفقاً للمدارس الحديثة في السايكولوجيا، تُؤخَذُ بوصفها نتيجةَ الآمال والأمنيات والتطلعات والأهداف والأفكار والافهام والهواجس، وحتى الأوهام (أنظر: فرويد- يونغ- لاكان- إدلر) التي يرسمها الإنسان لنفسه.
إنَّ الرؤيا، ماهويَّاً، إنَّما هي خياليَّةٌ قائمة على الطبقات الكامنة في ذاتِ النفس؛ إنَّها لا- وعيِيَّة.
إنَّ خياليَّةَ الرؤيا ترتبط بضرب من تناولها الإبستيمولوجي هو يقوم على فينومينولوجيا إبستيمولوجيَّة، وهي بعيدة عن النَّظر الرياضيّ (إبستيمولوجيا كارل بوبر). 
 
(6)
لأننا حينما نضع موضوعا فينومينولوجيَّاً داخل [حقل- الفهم] الخاصّ بالإبستيمولوجيا الرياضية نكون قد نمارس ضربا من التَّفكير لا ينتج إلاَّ اِلتباسا فكريَّاً يتضمَّنُ، على أقل تقدير، الآتي: 
1 - الخلط بين ماهيَّة الموضوع الفلسفي، وماهية المنهج الفلسفي، وحقل الفهم الذي من شأن الفهم الذي ينطلق، من حقل [موضوعيَّة- الموضوع]، كي يتعرف إلى الموضوع. 
2 - فهم فيزيقي لأفق فهم ميتافيزيقي.
أي فهم موضوع في ماهيته ميتافيزيقي وفقاً لأدوات الفيزيقا. 
3 - الخلط بين فلسفة الفن، والهرمنيوطيقا، والميتافيزيقا.
يحدث ذلك عَبرَ ممارسة تتضمَّنُ في طياتها فهما قبليَّاً آخر هو يرتبط بداخلانية Internalism النص، وبخارجانية Externalism النص.
يُسمى عند مجتمعيَّات معرفية في بلداننا العربيَّة، على نحو خاطئ، ظاهر النص وباطن النص.
لماذا خاطئ؟
لأنَّ ما يظهر أمامَ النظر يختفي في ظهوره، وهو موضوع الفينومينولوجيا الإبستيمولوجيَّة، وما يستبطنه النص إنَّما هو يمكنه أن يأتي إلى مستوى الوقوع، أي يُسهم في تحديد الواقعة المجتمعيَّة الكُلِّيَّة، وهو موضوع الإبستيمولوجيا الفينومينولوجية. 
فإذن، كيف، وبواسطة أيَّة ضروب إمكان جديدة يمكن أن نلج إلى النص وقد صار مُتساءَلاً عنه، وفقًا لميتافيزيقاه الخاصة؟ 
 
(7)
في الحقيقة، متى أُخِذَ النَّصُّ على أنَّه ذاتُ أُنطولوجيا ميتافيزيقية، فإنَّهُ لا يمكننا أن نلج إليه، إلاَّ عَبرَ تساؤلات تتحدَّدُ عَبرَ الأرضيَّة الإبستيمولوجيَّة للميتافيزيقا الحديثة.
أقصد بذلك، الانطلاق من التساؤلين هذين: 
التَّساؤل الأول: كيف وعبر أيَّة توسُّطاتٍ آيديولوجيَّة يأتي النص الدِّيني إلى مستوى الواقع المجتمعيّ- التاريخي؟
وما هي الوظيفة المجتمعيَّة التي يؤديها، عَبرَ ثُنائيَّة [التاريخ- والمجتمع]، في اليوميِّ المُعاش؟
نكون عَبرَ هذا التَّساؤل منطلقين من ميتافيزيقا خارجانية النص الدِّيني.
التَّساؤل الثَّاني: بأيَّةِ معانٍ، وضمن أيِّ ضرب من ضروب التخصيص البنيوي للنص يمكن أن نلجَ إلى إمكان مَعنَنَةِ الظاهر المجتمعيّ- التاريخي؟
وما هي المصادر المعرفيَّة التي، بتوفُّرها على إمكان المعنى، تعيدُ كثافة المعنى للنص؟
فنكون عَبرَ هذا التَّساؤل منطلقين من ميتافيزيقا داخلانية النص الدِّيني. 
 
(8)
وضعت هذين التساؤلين أمام الباحثين والمفكرين والعلماء والفلاسفة في بلداننا العربيَّة من أجل ديالكتيك هرمنيوطيقي يبدأ بفرضيَّتين فاهمتين تفسيريَّتَيْن دالَّتَيْن هما: 
الفرضيَّة الفاهِمَة التفسيريَّة الدالَّة الأولى ترتبط بمحدِّدات السلطة، والمؤسسة الدينية، من حيثُ إنَّها مجتمعيَّة تاريخية.
والفرضيَّة الفاهِمَة التفسيريَّة الدالَّة الثَّانية تقوم على المعنى، والهدف، والدلالة التي يمكن للفعل أن يتوفَّر عليها في الذِّهاب نحو الخارج المجتمعيّ.
ولا يمكن الظفر بفهم شروط الإمكان التي توفرهما الفرضيَّتان هاتان إلاَّ بتوسُّطِ تواشجٍ بنيوي بينهما يتبدَّى عَبرَ وقوع الواقعة في الإبستيمولوجيا ما بعدَ قابلية الدحض مع كارل بوبر، أو ظهور الظاهرة، في الفينومينولوجيا ما بعدَ ماكس شيلر(الوجود في العالَم عَبرَ بناء فعلِ المحبة)، وآلفرد شوتس (التفاعل- والتفهُّم الفينومينولوجي). 
 
(9)
في السَّبيل إلى ذلك، لا يكفي التوفيق، كما فعل سروش، بين نظرةِ كارل بوبر، وأفق الفهم عند فيلهلم ديلتاي، ونظرية بِنيَة العلم لدى توماس كون.
بل لا بُدَّ من أنْ نوفِّرَ أرضيَّة إعادة بناء المفهوم، وفقًا لثلاثية أصليَّة تأتي من النص نفسه، أي ثُلاثيَّة [الواقع المجتمعيّ التاريخي- والآيديولوجيا المجتمعيَّة- والديالكتيك بين مصادر السلطة (الشرعية المجتمعيَّة، قَبلَ المشروعيَّة القانونية)، وركائز الفعل
المجتمعيّ].
لأنَّنا، إذا تساءَلنا عن النص بوصفه ظاهرةً، أو واقعة، وفقا للاتجاهات، والمدارس العِلميَّة الحديثة المختلفة، فإننا يستحيل أن ننتج معرفة علميَّة به، في العالَميَّة، تقوم على ضروب توفيق تعاني من تناقض بنيوي أصليّ.
لأنَّ النصَّ لا يبدأ ولا ينتهي؛ لا أوَّلَ له، ولا آخِر. إنَّه، دائماً قَبْلِيَّاً، في 
المنتصف.