تأثير نينوى في الحضارة الفارسيَّة

ثقافة 2022/02/16
...

  د. علي ثويني
عند المقارنة مع إيران التي نضجت معمارياً وحضارياً بعد العراق بما لايقل من ألفين وخمسمئة عام، إذ نجد أن أقدم مدينة أنشئت في الهضبة الإيرانية هي أقباتان الواقعة على تخوم همدان الحالية (336 كلم جنوب طهران)، وتاريخها يعود إلى نحو 800 ق.م ويصنفها مؤرخ عمارة إيران الأميركي (أرثر بوب 1881-1969) بأنها الأولى التي استعملت مبادئ تخطيطية عمرانية ومعمارية. 
   
أما أقدم زقورة في إيران، فإنها تقع في الأحواز، التي تشكل جزءا لا يتجزأ من السهل والوطن والثقافة العراقية، وأنشأها الملك العيلامي (جوكا زنبيل Choga Zanbil) واكتملت في عهد الملك (أونتاش Untash)، وهي تقع قرب سوسه أو الشوش وتعود للعام 1250 ق.م. بينما أقدم زقورة في العراق باقية في أور السومرية المخصصة لعبادة الإله (سين) أي القمر، تعود إلى العام 3100 ق.م. لهذا فإن ثمة ألفيتين بين نشوء البنيان بين شقي الثقافتين.
ولا ترقى أقدم الفنون الفارسية الى أبعد من عهد قورش (Cyrus) (54 – 529 ق.م)، وكانت مدينة (برسيبوليس) أو “فارثيا” تعج بالمعماريين والفنانين العراقيين خلال الحقبة الأخمينية ممن جسدوا ميراث الدهور العراقية هناك. فجاءت آثار المدينة الدارسة صنوا لمدن وفنون الآشوريين. ولدينا مثال نحت الآلهة أهورا (أثورا) أو الثور المجنح في ثنايا قصور مدينة (برسيبوليس) تقليداً لثور نينوى، بالرغم من أن الثور لم يكن مقدساً لديهم كما كان الحال لدى الآثوريين، والذي نجد أنصابه في مداخل مدنهم وقصورهم في نينوى وخرسباد وكالح وآشور، بينما كان الفرس يعبدون آلهة أخرى مختلفة، وعمت الزرادشتية نحو 800 ق.م، وهي ديانة لا تحتاج إلى معابد، بل إن الداعية زرادشت نفسه القادم من قزوين عاش في بابل سنين طويلة، واقتبس الكثير منها وأقحمها في فلسفته. ومن الطريف أن دينه الذي ظهر شمال إيران كان يصف جهنم بالثلج والبرد بما يحاكي بيئتها، على النقيض من جهنم في المفهوم الإسلامي التي توصف بالنار كونها وردت من مناطق حارة.  
لذا لم تكن المدن التي يحتلها الفرس تحمل سمات القداسة، ومنها إحراقهم مدينة بيت لحم بفلسطين عام 614 م. ومن الجدير ذكره أن الآثاريين الفرنسيين وجدوا “مسلة قوانين حمورابي” البابلية ليس في بابل وإنما خلال تنقيبهم في مدينة (سوسه) أو (الشوش) الواقعة في الأحواز (Susian)، بعدما انتزعوها من مكانها في بابل إبان حالات المد والجزر الاحتلالي، ونرجح أنها غنمت إبان الدولة الفرثية (140 ق.م-226م)، وكان سوسه عاصمتها الصيفية. 
وقد سارت الحضارات الأكدية والكيشية ثم البابلية على المنوال البنائي نفسه في استخدام الطين كخامة أساسية، وتطورت خلال الحقب المتعاقبة وتصاعد أداء المنهج التخطيطي والكفاءة الإنشائية وتصاعدت في المقاصد الجمالية حتى وطأة حالة تنوع في المعالجات الفنية، ودقة وضبط في العناصر المعمارية. وقد استعمل الطوب (هو الطين المجفف تحت وهج الشمس) أو الآجر (الطابوق) المحروق بالآتون في الهياكل الإنشائية، وغشي بالآجر المزجج الملون، ثم كُسيت الحيطان الداخلية بطبقة من ملاط الجص. أما من الناحية الوظيفية فقد اضطلعت المعابد بأهمية قصوى في الحياة الروحية والثقافية والاجتماعية العراقية. 
وفي العمارة  الآشورية التي بدأت  سومرية لكنها سرعان ما تواءمت مع بيئة الجبال  منذ العام 2400 ق.م، وتداولت الحجر الكلسي والطيني وهي خامات بناء جيدة ووفيرة في جبال شمال العراق (أطورايا)، وواءمت العناصر الإنشائية مع الحجر، واستحدثت عناصر معمارية وظيفية، ومنها مثلاً بناء (السقوف المزدوجة) أو بيوت (الكلة) أي الأبراج، المصممة في طوابقها الأرضية والتي توظف للعيش في طوابقها العليا، وقد انتشرت في أصقاع كثيرة ولا سيما في البيئات الجبلية كالقوقاس والبلقان والأناضول بل عسير في السعودية (تسمى القصور)، واليمن. واستعمل الحجر الكلسي في أسس البناء المعرض للرطوبة التي تلحق بالآجر النيء (الطوب) ضرراً كبيراً، واستعانوا بالحجر لبناء أسوار الصروح الملكية. وجدير بالذكر أن العمارة الآشورية كانت دنيوية أكثر منها دينية ولم تقم صروح للروح كما في سومر وأكد وبابل، وكرست الصرحية التي توحي سطوة واختيال الدولة، وهذا ما اقتبسه الرومان والفرس تباعا ثم وطأ بعض عمائر المسلمين، حينما تخلوا عن الزهد المحمدي.
وتعد الحقبة البابلية المتأخرة ذروة ما وصلته العمارة والفنون، ونجد في بوابة عشتار ملامح من ذلك السمو. وعندما احتل الأخمينيون القادمون من إيران، وسقطت بابل على يد قورش عام 539 ق.م، حدث أن تقمص الغالب روح المغلوب الحضارية، إذ تجلى تأثير الحضارة العراقية في شتى وجوه الحياة الفارسية، حتى أن اللغة الآرامية أمست لسان الثقافة والإدارة الساسانية، وتقمص الفرس روح التدين العراقي، وأمست المانوية دين القوم الغالب، وهذا ما أوحى للاعتقاد بأن الداعية ماني بن فاتك البابلي (213-277م) فارسي، بالرغم من كل ما يثبت انتماؤه البابلي العراقي. وهنا نشير الى أن اقتران الفرس بالإسلام ثم التشيع، نعده سياقا متواترا، سار على هدى الثابت التاريخي، فالتشيع أصله عراقي محض، وفصله فارسي. ومن المفروغ منه أن إيران كادت أن تكون عربية قبل خمسة أو ستة قرون، حينما كان أدباؤها لا يكتبون إلا بالعربية، ولا يعرفون الفارسية إلا باللسان الشعبي، لذا فإن 70 بالمئة من مفردات اللغة الفارسية اليوم هي عربية، وقد أتتهم من العراق من دون ريب. تعد الدولة الساسانية الأقرب تاريخيا كونها جاءت قبيل ورود الإسلام الذي تعمد مؤرخوه الى التعمية على ما سبقه كونه (جاهليا)، ولا سيما الإرث الآرامي المسيحي خلال إحدى عشر قرناً، مثلما حصل بين الرومان وطمسهم لليونان، ورفضهم تقليدهم. وأدغمت تلك المغالطات في صلب المنتج التدويني العربي الإسلامي، لذا ثمة جهل بحيثيات تلك الحقبة (539 ق.م-635م)، حتى أن اسم (نبطي) أدغم وتساوى مع (أعجمي) الذي اقترن بالفرس تباعاً، فأصبح العراقي مشمولا بذلك السياق البعيد عن الواقع والوقائع، بل إن انتماء (الموالي) وتهمة (الشعوبية) الملتبسة بالعنصرية، جمعت العراقي المعتد بانتمائه للأرض، مع الفارسي الطارئ المحتل. وقد أسعفنا علم الحفريات بكشوف تدحض الكثير مما ورد في الرواية الإسلامية أو اعتمدها تزوير المستشرقين وترديد المستغربين، فأصبحنا أمام شهادة ثلاثية مسلم بها. لذا اقتطعت حلقة مهمة من حلقات التاريخ الحضاري العراقي، بما فتح شهية الغربيين في نسب كل ما هو إسلامي في العراق الى ساسان وفي الشام الى بيزنطة، كونهم (آريين)!، بحسب تصانيف الأقوام الساذج، والذي ساد ردحاً ثم باد بعد انتهاء النازية. وهي النظرية التي أطلقها اليهودي الهنغاري (شلوتزر) عام 1781، بتقسيم الشعوب إلى سامية وحامية ويافثية، بحسب أسماء أولاد النبي نوح بعد الطوفان، وما زال الفرس وبعض من العراقيين يصنفون أنفسهم (آريين) رغم سذاجة الفكرة ونأيها عن أي دليل لساني أو أجناسي، وفي ذلك سياق كتبته في (الألسنة العراقية).
روج الفكر القومي الغربي بأن “الساميين والحاميين” مستهلكو حضارة، والآريين منتجون لها. وبرغم عدم إيماننا بذلك التلفيق، فإن علم الحفريات دحضها وقلب المجن عليها، وأثبت وبدليل التقادم الزمني الدامغ بأن العراق “السامي”، مكث مهدا ومنتجا للسمات الحضارية، بل وإن فارس “الآرية” مستهلكة ومقتبسة لها. ومن الطريف أن الفرقة الحفرية الألمانية التي نقّبت في بابل وسرقت كنوزها ولا سيما بوابة عشتار عام 1897 بقيادة المعمار (روبرت كولدوي Robert Johann Koldewey) (1855- 1925) ادّعى في حينها وبسبب سطوة النظرية العرقية تلك، بأنهم جاؤوا يبحثون عن الاقتباسات العراقية من عمارة برسيبوليس (الآرية) في إيران. لكن تبين لاحقا، أن كل عمارة وفنون (برسيبوليس)، ليس إلا استنساخ من العمائر والفنون العراقية التي سبقتها بألفي عام على الأقل.