الفكر العبثي في متوالية «بريد الآلهة» القصصيَّة

ثقافة 2022/02/16
...

 د. حنان الشرنوبي 
 
انبثقت العبثية من الفكر الوجودي بكل ما تحمله من مرجعيات وأسس وخصائص ممهدة لنظرة جديدة في الفلسفة ومن بعدها الأدب. وعلى الرغم من أنه ليس للفكر العبثي سلطة أو قانون غير أن السارد في قصص (بريد الآلهة) كان ملتزماً وغير منسلخ عن عالمه الواقعي بحروبه وأهوائه ومشكلاته وما هيَّأه من ظروف أو بيئة مناسبة للهروب من هذا الواقع الأليم.
ولقد سبقه في هذا الكاتب المسرحي صمويل بيكيت في أولى مسرحياته (في انتظار غودو) التي جسدت المعنى الحقيقي للعبثية. وفي عالمنا العربي يقابلها مسرحية (يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم. مستعملاً فيها الرمزية الذهنية.. ومن بعده جاء العديد من الكتاب والأدباء الذين جسدوا بإبداعهم الأدبي سمات إبداعية تتراوح بين المسرح والرواية والقصة وحتى الشعر. نذكر على سبيل المثال مسرحية «مسافر الليل» لصلاح عبد الصبور ومسرحية «قصد الدم» لسعد الله ونوس ورواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ. وغيرها من النتاجات الأدبية التي نتلمس بين سطورها ملامح الفكر العبثي وتمثلاته.وفي»بريد الآلهة» نستشعر فكرة الاغتراب الإنساني التي تشمل حالة العجز أمام المجتمع أو اللا قدرة أمام سيطرته، كذلك تبرز الرمزية في المعاني والتورية الغامضة والتعريض والنزوح نحو المعاني غير المباشرة.. فمثلاً في قصته (مصادفة لا يقبلها الصفح) نجد مرزوقة الفاتنة زوجة الحمّال ذات الأنفة والعنجهية؛ والتي أبت أن تكون لزوجها وإنما لعديد من الرجال.. فتطيح بشرف الزوج وتستسلم لرغباتها حتى يكشف أمرها طفل ضعيف مرتجف يمثل المستقبل الذي يصمت من أجل قطعة حلوى تُعطى له. وزوجها الحمال الذي لا يستمتع بما يحمله من زواج أو يملكه.. وفي هذا رمز خاصة أن الاسم غير مذكور صراحة لعمومه وشموله، وكأنه حال كل حمال يحمل ولا يملك من أمره شيئاً كمغترب في وطنه، وفي هذا إشارة جيدة من السارد للطبقة المغبونة والمسكوت عنها. حتى تفصح زوجة حمال آخر هو العم إبراهيم عبر حوار بين طفل وأمه. 
«- أمي، من هم الذين تقصدهم زوجة العم إبراهيم بالسرّاق؟ 
- هؤلاء التجار الذين صادروا جهود أبنائنا. 
- طيب؛ ألم تقولي يجب علينا ملاحقة السرّاق وتسليمهم إلى السلطة؟ أليس هذا الذي تعلمناه في المدرسة يا أمي؟.. لماذا نراهم يحومون بيننا بكامل حريتهم؟ 
- بالطبع.. لكن.. لكن.. لكنهم يسرقون بقانون. 
- وكيف السرقة بالقانون؟
- اووووه… اذهب فقد صدعتني. «ثم ينتهي هذا التصريح من السارد برؤية مرزوقة مع سارق آخر أو زعيم يناورنا على طاولة القانون مقابل المزيد من (قطع الحلوى).  ويطرح السارد سؤاله ص21 (ما الجدوى من كل هذا الغثيان المستمر؟) ثم يذكر عدة عتبات ويكررها مثل المصطبة/ الباب.. وكأنه يدعو إلى عدم التزام الأولى والخروج من الثاني. فالكون في نظره مغلق ص23.. كما الأبواب الموصدة وعدم الحراك فوق المصطبة فكيف يكون الخلاص والخروج من التيه الذاتي.. حتى أنه عجز عن إدراك ملامح الكون من حوله فنجده يتفحص أيضا ملامح وجهه بكفيه المرتعشتين وقد بانت باهتة بلا معالم يذكرها. ثم يسمع من حوله (صراخ متئد) ولم يقل (صوت متئد) مما يدل على الآلام العنيفة الداخلية التي تزداد بعجزه عن التأوه بها.. فيقول ص27 «نحن نشيخ وأوجاعنا فتيّة». ربما بسبب حسرات الأمهات المكللات بأضرحة وشواهد من هموم، فها هو صديقه «يستشهد ويبقى (سارتر) يناقش وجودياته الشائكة» ص38، وهذه ليست فقط صرخات مكتومة، بل لقد عَرَض السارد أكثر من صرخة تعاني العبث كزواج القصّر وتأليه بعض البشر وإن كانوا دعاة ورجال دين؛ فمن اعترض وقال لا.. أصبح مارقًا خارجًا عن الشريعة.  ونتيجة لكل ما سبق نجد شعور الفرد بالتيه يتجلى، فيقول السارد «فكرٌ أقفله التيه وجسد بلا هوية، منتزعين من دواخلنا صفة الطمأنينة التي هرعت وأخذت معها دفقاً من الأسئلة الشاردة»، كذلك من أساسيات هذا الفكر الشعور باليأس أحياناً والفقد «الآن انتابني الشعور باليأس؛ أحسست بضموري إزاء احتياجات أسرتي التي أخذت بازدياد ملحوظ.. هكذا بتُّ بفكر شارد ما انفكت عنه حاجتي الملحة لطلب عمل أضحى بعيد المنال». وفي القصص يطرح السارد بعض الأسئلة النافرة التي أخذ حضورها بالغياب.. فالأحلام في نظره لا تتحقق إلا بالمنام والغياب عن الواقع. كما كرر في قصصه لفظة الجنون حتى جعلها عنواناً لإحدى القصص (جنون هوس وجحيم) وكأنها نتيجة العبث المجتمعي.. ومن علامات إبداعه أن جعل آخر القصص معنونة بـ (هاجس).. وكأن ما سبق من قصص يختتم بهاجس.. لا يمت للواقع بصلة. وهو من علامات القلق والسخط كما لاحظنا في محاور هذا اللون العبثي، كذلك لمس القضايا الحياتية ومواجهة الواقع.. وأيضا جعل البطل في قصصه من عامة الناس، وكذلك باقي الشخصيات البسيطة التي تحيا واقعاً عبثياً. 
*ناقدة مصرية