استعادة الوجود في حديقة المصح

ثقافة 2022/02/19
...

 د. نائل الزامل
 الإنسان في الغربة لا يتخيل، أنه يتذكر كثيراً، يعيد بناء المشاهد والأحداث من ثقب في المجهول أو اللاجدوى، وفي لحظة الوجدان مع الأشياء المهمة والعابرة تتداخل الأزمنة ويتحول الكائن البشري إلى مجموعة من الفعاليات الحضورية المكررة في عالمنا لكنها للأسف لا تلفت انتباهنا ولا نتأملها كما ينبغي وسط حشد الازدحام والضغوط والتكرار، ما قدمه مهند يعقوب في حديقته (حديقة المصح)، هو انعكاس لذكريات سابقة تقترن بروح لا تطيق الجسد فتتماثل مع مجموعة لحظات مشابهة لبعضها، عاش لحظتها الشاعر لكنه لم يعبر إليها من زاوية استعادة الذكرى بل من ايقاف الزمن بتلك اللحظات والعيش طويلا في دائرتها، حتى تحولت إلى حياة مستقلة ربما جميعا مررنا بها، لكننا فاتنا أن نتوقف عند دهشة اللحظات فيها، وتركناها تتسرب كسجل يومي تقليدي،
 
 مهند يعقوب يخبرنا بلذة الدهشة في تلك الحياة، بمراحلها العمرية المكونة لوجودنا اللاحق، ومن خلال تحول الهامش في حياتنا إلى مركز، يعيد الشاعر رسم مخططات حياتنا وينظّم لنا الأحداث على وفق أهميتها التراتبية في تأثيرها الوجداني، واضعا هرما من الأولويات تتربع الدهشة على قمته، وتمثل متعة الاكتشاف ولحظات النمو الحقيقي لمشاعرنا، وتتكرس تلك غالباً في مشاهد المراهقة والطفولة التي منحها الشاعر حضورا موازيا في نصوصه، وجعلها صالحة لكل لحظة من أعمارنا.
في حين ينطلق قسم آخر من نصوص المجموعة إلى المراقبة المتوثبة، عيون الغرباء تلتقط كل شيء تتحدث عن الملاحظات اليومية بهالة من الاكتراث العميق لسعي جاد لفهم ماهية الأشياء حوله، والتعاطي مع تراكم الصور والأحداث البسيطة التي يعكسها سلوك الناس العاديون حين يمرون أمامك من دون أن يشعروا بوجودك أو عينيك التي تراقبهم بدقة متناهية، وتقرأ كل شيء فيهم بدءا من ملامح الوجه والملابس وحركاتهم التقليدية البسيطة، وصولا لتجذير كل تلك المراقبة بمتخيل يعبر الزمن واللحظة الواقعية إلى عوالم سحرية في بعض الأحيان أو سريالية في أحيان أخرى، يجمعها الشاعر كقطع غير متجانسة لاستنتاجات غريبة ومتنافرة أحيانا جراء مراقبته الدقيقة لأحداث لن ينتبه لها أحد، ومثلما يمر العابرون من دون اكتراث بتلك العينين الراصدة والباحثة عن معنى في وجودهم، كذلك الشاعر يغادرهم بعد أن يحنّط حركاتهم بشكل بارع في مخيلته، ومن بين آلاف الصور يدوّن بعضها على الورق، ويستمر وحيدا يراقب من حوله التداعيات اليومية ليؤرخ لنا أشياء لم يكتبها التاريخ أو يهتم لوجودها، كوجود امرأة تقرأ كتابا بملل في محطة المترو في بروكسل، أو عجوز تتسكع بدلا عن كلبتها.
   تأخذ الأسرة والأصدقاء قسما من المجموعة، وبالتأكيد سيكون هو القسم الأكثر مأساوية، فالذكريات هنا إما عن أسرة غادرها الشاعر، أو أصدقاء معظمهم غادروا مبكرا الحياة، وتبقى صورة الأب هي واحدة في أذهاننا جميعا، تلك الصورة التي نكتسبها في سن المراهقة أو تزاحم الذكور في البيت ولا تغادرنا إلا بعد أن يزاحمنا أبناؤنا، فنعيد ترميم التشققات في العلاقة مع الآباء التي تبدو بسيطة لكن عمقها باق بجروح كبيرة في الروح، ومن خلال البقع الداكنة التي يغرسها الشرقيون من الآباء، تتمحور تلك الذكريات الأسرية بانعكاسها المؤلم من زرع الشعور لدى الأبناء بأنهم (لا شيء)، أو من خلال النظرة إلى وجود التسلسل في هرم الأسرة والسلوكيات الطائشة التي نعبّر من خلالها عن وجودنا، والتي تنتهي بالهرب أثناء العقوبات الجسدية، وكان حضور الأخ في المجموعة بصورته المتمردة الجارحة التي تترك شقوقا بنفسجية داكنة على جذع الشجرة، وقد يشعر المتلقي بمجموعة نصوص أخرى وإن خلت من الانتماء للأسرة ولهذه العلاقة المتشنجة فإنها لا تبتعد عنها كثيرة، فثيمة الابن اللا شيء الذي يشبه الهر على السياج وهو هارب من كدمات الأب الزرقاء يتحول إلى (الكلب الذي لا اسم له) كلما شعر بالغربة والجوع ورعب منبهات السيارات وغربة التيه والضياع، حيث لا شيء ينتمي له ولا شيء يجعله موجودا فيكون هو اللاشيء بحد ذاته، ويحضر الأصدقاء بصورهم المؤثرة لا سيما المغادرين منهم، يأخذون صورهم الأسطورية وحركاتهم الغريبة وانفعالاتهم المفعمة بالوجود، يصورهم الشاعر كشخصيات غريبة في عالمنا ومميزة جدا، ورغم كل حضورهم المدوي يلفهم الغياب قسرا، أولئك الذين يهربون للحياة ولا يصلون أبدا، وتبقى ذكرياتهم كمفارقات لا يشوبها الحزن، بل إن دهشة وجودهم بيننا سابقا لا تصدق وغيابهم أيضا. 
 يأخذ قسم التأملات والمراقبة للواقع صوراً كثيرة متداخلة بين وصف مجرد لعبثية الحياة، أو مشهد سريالي أو تعبير عن شخصيات كثيرة عامة، لكن الهاجس الوجودي المتحفز للتعبير عن الأشياء، يحوّل كل ما هو تلقائي إلى شعري، يعمّق الأثر والوجود ويمنحه إطلاقا جوهريا، والانتقال من جان دمو إلى بورخس إلى كازنتزاكي إلى صورة البطارية الكاربونية التي تعضها الأسنان بعد الاستهلاك لإطالة عمرها، إلى حياة تشبه تماما تلك البطارية التي كلما نفدت استنزفنا من بقاياها ما يجعلنا نستشعر كينونتنا وبقاءنا حتى لو كنا مراقبين للأحداث أو مشاركين في وصفها فقط بعيداً عن تدخلنا، وتبقى صور المدن الماثلة كأطلال في الذكريات ترتب الشجن الذي اعتدناه جميعا في الماضي.
  استعمل مهند يعقوب تقاناته الشعرية بحرفية عالية، فكان التشيؤ حاضراً في معظم نصوصه لكن نسبته للذات جعله يبدو خفيا بين الانزياحات الكبيرة التي ينتقل بها من خلال عين مراقبة فيكون توحّد المشاعر دائما المعبر للتحولات الحسية من شيء لآخر، ولا يخفى الأثر السردي الواضح في نصوص المجموعة لا سيما في مقدمات بعض النصوص، حتى أنك للوهلة الأولى تظن أن الكاتب حين شرع في تدوين مشاعره لم يقرر بعد الجنس الأدبي الذي سيدونه، وبعد تراكم الصور وتكثّف المعنى يأخذك النسق إلى القصيدة، وعلى الرغم من وضوح الحزن في المجموعة إلا أن جمالية إعادة اكتشاف الأشياء من حولنا ودهشة إعادة ذكرياتنا مع المجموعة تحيلنا إلى لذة ممتعة ونحن نمر وسط حشد من مشاعر الغربة والوحدة والموت والنسيان والكوابيس وتدوين الأحلام والملل والتشاؤم، ويبقى صوت الشاعر الوجودي حاضرا وطاغيا، إننا في حديقة المصح نتعرف على مهند يعقوب على رؤيته للأشياء، على عمقه في التأمل، وعلى لذة الحزن الخفي في سحنته الجنوبية السمراء.
  إن عنوان المجموعة يشكل تعبيرا دقيقا جدا لما تحتويه من مشاعر، وكلما توحدت ذكرياتنا ومواقفنا مع الشاعر كلما أصبحنا نهذي في المصح، نعيد نسج الأشياء البسيطة التي شهدناها ونرى حجم تأثيرها فينا وانعكاسها على وجداننا، فجميع هذا التشظي الذي ندخله معا بالتأكيد لا نخرج منه بسلاسة، بل محملين بوجودنا الخاص وذكرياتنا النائية، إن مهند يعقوب ينجح ببراعة بزرع شعور الغربة فينا تجاه كل ما كنا نظنه مألوفا أو نعده عابرا، فهو يرصدنا جميعا ويفتح في ذاكرتنا حنينا مدويا مرة للبكاء وأخرى للبحث عن الأصدقاء المغادرين وأخرى للتسامح أمام تفاهة الأشياء، لكنه لا يفتح باب الضحك أبدا، فكل هذياننا معه في حديقة المصح هو حياتنا المهدورة في تشعبات غير متوافقة.