كيف نفهم {فيروس كورونا} فلسفياً وأيديولوجياً؟

ثقافة 2022/02/19
...

  بغداد: ابتهال بليبل
قد تأخذنا استنتاجات معظم الفلاسفة في أن {إنسانية الشخص تعتمد على إنسانية من حوله} للتفكير بشكل العالم وكيف سيبدو بعد فايروس كوفيد- 19؟، ففضلا عن كونه أحد أكثر الأوبئة المعاصرة رعباً وانتشاراً، إذ حصد أرواح الملايين في شتى أنحاء العالم ولا يزال ينشب أظفاره في منايا البشر، مشكلا أحد أهم مصادر الرعب والقلق والذعر، كما يراه الناقد د. نصير جابر، إلا أن له دلالات أخرى، تشتبك مع الفلسفة والأيديولوجيا مما يجعله بؤرة لحوار وجدل قد لا ينتهي لفترة طويلة. 
لقد جاء من الصين آخر قلاع الشيوعية في العالم - بحسب جابر- لينتشر في العالم الرأسمالي وسط أزمات ساحقة يعاني منها هذا العالم، فبدا الأمر وكأن (الشيوعية = وباء) في إشارة روّج لها الإعلام كثيراً بصورة مباشرة وغير مباشرة، لذا بدت كورونا ذات لمحة ايديولوجية حاول الجميع استغلالها لتحقيق أرباح فكرية ومادية بوصفها فرصة سانحة لا تتكرّر.  
رأي جابر هنا يساند "ما قدّمه الفيلسوف الماركسي السلوفيني سلافوي جيجك حول رؤيته للأبعاد الإيديولوجية والفلسفية للفيروس"، حيث هناك أكثر من بعد فلسفي، لعلّ أهمها أن هذا الوباء غيّر رؤيتنا نحو العالم إلى الأبد. فقد تشكّل أمام الجميع وكانت لحظاته موثقة ومشاهدة ممّا جعله تحديا حقيقيا للكثير من الآراء التي كانت تبدو لنا راسخة حول قدرة العلم والمدنية الحديثة والثقة بما أنجزته البشرية في دفع أي وباء، ومن ثمّ يجب على العقل المعاصر إعادة القراءة جيداً. 
لقد حول الحجر الصحي العالم إلى سجن كبير، كما يرى جابر وغيره الكثير، فكنا في لحظة سجناء نتواصل من خلال (السوشل ميديا) التي حولت العالم إلى قرية صغيرة في مفارقة فلسفية غريبة!
 
طلسم غامض
التوقف عند سؤال "ما الذي يرمز إليه (فيروس كورونا) فلسفياً وأيديولوجياً؟" يفرز بين الرؤية الفلسفية والأيديولوجية، بحسب الكاتب والمُنظر محمد يونس، إذ يوسع فكرة ما بعد التشخيص الطبي. 
إن التفكير الفلسفي إزاء الوباء قديم قدم التاريخ فالفلسفة القديمة اهتمت بذلك، خصوصا ما كان عليه من أثر طاغ لوباء الطاعون، وهذا ما يجعل التفكير الفلسفي يهتم بدراسة الوباء ذي الأثر الجمعي. 
يعتقد يونس أننا اليوم نقف فلسفيا بموازاة الوباء، حيث تغير التفكير الفلسفي.. فترى الفلسفة العلمية أن المرض أو الوباء أشبه بطلسم غامض يحتاج الى سعة تفكير، والحصان العلمية هي أولى الجهات الأساس، وعلى الفرد البشري عدم مواجهة الوباء ابتداء بالحصانة العقلية، فهي لن تجدي مثلما تحفظه صحياً. 
وبحسب المنطق الفلسفي فضرورة أن نجنب العقل الفلسفي التجريب لأنه ليس بمجاله وانما مجال الطب أساساً، وإذا كان عليه خوض ذلك فمن الممكن الاستفادة من التجريب الطبي عبر النتائج التي بلغها الطب. 
وأما الشق الثاني، وفق تعبيره، فإن الأيديولوجيات بحد ذاتها وباء يمكن قرنه بكورونا، فالحرب العالمية الثانية حصدت ملايين الأرواح بسبب نزعة أيديولوجية من التعالي والاستغلال، واليوم سعت أيديولوجيات عقلانية للقضاء على المرض، بينما سعت أيدولوجيات من صنف آخر إلى استغلاله، وخصوصا في الجانب الاقتصادي، ولم تقف حتى منظمة الصحة العالمية على رأي معين، فقد تعددت الآراء، وقدمت عدة شركات منتجها. 
يرى يونس أن الحس السياسي قد اختلف أيضا في تفسير ما بعد الوباء، وتعددت أهداف السياسات الكبرى في دمج العلاج بالوضع الاقتصادي، وصراحة تلك هي طبيعة التفكير السياسي – التعدد داخل إطار الفكرة الواحدة - لكن صراحة الإنسان الذي داخلنا هو الضحية، فنحن نعاني من عجز كبير بعدما صرنا شبكة علاقات واسعة تمكن الوباء من تحجيمها وجعلها صوتية فقط. 
 
الوباءُ طاقةٌ متجددةٌ للحياة
يبدأ الكاتب والشاعر أوس حسن برؤية نيتشه في أن الفيلسوف الحقيقي هو طبيب الحضارة، طالما كانت هناك قيم تتصدع وتتهاوى لتبشر بانهيار الحضارة أو أي أمة من الأمم.
ويعتقد حسن أن الأوبئة والأمراض تضعنا في مواجهة حقيقية مع كينونتنا، ومع الأسئلة الأخلاقية الكبرى، وفي هذه الأجواء تعود الفلسفة بقوة إلى واجهة الحياة لتساعدنا على مواجهة الأزمات اليومية.. فالفلسفة هي طب العقول وتخليصها من الأوهام والأخطاء السائدة في نمط التفكير.
 كان سقراط، وفق تعبير حسن، في عصر يبشر بأفول أثينا نتيجة الحروب، مع تفشي وباء الطاعون المميت الذي فتك بالكثير من الأرواح، لكنه لم يتوقف عن طرح الأسئلة والمحاججة لتوليد الحقيقة، ولتحسين رؤية البشر إلى العالم.
وكذلك في القرن السادس عشر عاد وباء الطاعون ليتفشى، لكن نرى أن الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتاني رغم فقدانه لأعز أصدقائه نتيجة الطاعون الذي فتك بنصف سكان مدينة بوردو، إلا أنه لم يستسلم للحزن وطاقته التدميرية، وتلك التي يسميها سبينوزا الأهواء الحزينة. 
أما دي مونتاني، بنظر حسن، ارتقى سلم العزلة، لينتج لنا الكثير من مقالاته الرائعة التي تعلمنا مفهوم الحياة كفن وابداع حتى في أدق التفاصيل اليومية، وفي أكثر الأشياء بساطة.
مع جائحة كورونا عادت الفلسفة الرواقية بقوة مليئة بحمولات نفسية تساعد الإنسان في تحسين نظرته إلى العالم وإلى الأشياء من حوله، فالرواقية هي فن التصالح مع الحياة والموت على حد سواء، فما يسبب لنا شقاء وبؤسا هو حكمنا على الأشياء، وليست الأشياء نفسها، وكذلك مفهومنا الموروث عن الموت بوصفه أمرا ً فظيعاً ومروعا ً، دون أن نعلم أن الموت هو عبارة عن تبدلات جديدة في العناصر تخضع لقوانين الطبيعة، والتي يجب أن يعمل بمقتضاها العقل البشري، بحسب حسن. 
يقول فيلسوف اللذة أبيقور".. لا يعنينا الموت في شيء.. يوجد فلا نوجد، ونوجد فلا يوجد".
من هنا يرى حسن ضرورة أن نتعلم من العقول الفلسفية الجبارة عندما يصيب وباء ما أجسادنا، كيف يحفزنا على الأبداع وعلى الشغف الدائم بطاقة الحياة، فالحياة لا تعاش كما نراها ونحياها، بل في تلك اللحظات الهاربة التي تسلل من أعمارنا.
 
نظرية المؤامرة
أما الناقد عبدالغفار العطوي فيرى أن العيش مع الطبيعة - ظل- من السمات التي تهدد وجود الجنس البشري، لأن التحديات التي تواجه أضعف كائن حي هي من الكثرة التي سجلت كوارث في مخيلة الإنسان من ما قبل التاريخ لعصرنا الحالي، تلك التحديات التي تخلقها الأوبئة والمخاطر البيئية والحيوانية. 
ويجد العطوي أن الإنسان وهو يتدرج في الرقي المدني والحضاري، عبر فلسفياً عن الأسباب التي تهدد كيانه الإنساني، ومع إنه بقي يبتكر الوسائل التي تقيه من وهدة الهلاك، العلوم الدوائية والعيادية، وينجح في الحد من خطورة الأمراض الخطيرة والأوبة الفتاكة كالطاعون والملاريا  والكورونا، ومضاعفاتها. 
 لكن التاريخ الفلسفي والفكري من قبل الكتابة لغاية القرن الحادي والعشرين، يقر إن الإنسان محتم عليه أن ينظر إلى العالم الخارجي بوصفه عدو يستفز تساؤلاته في المعالجة الدقيقة في صنع عالم غير مضطرب، الطاعون الأسود الذي اجتاح أوروبا في  السابع عشر، ووباء الكورونا الذي يقض مضاجع الإنسان جعل أزمة الكينونة تنهض من سباتها على يقظة مفزعة بأشكلة البقاء على قيد الحياة، والاضطرار إلى تغيير أنماط الحياة والتفكير بجدية. 
 إن التهديد القادم بانقراض النوع البشري، وتحول الكرة الأرضية إلى غول كبير، بحسب العطوي، هي مسألة وقت وحقيقة واقعة، فالتصور الفلسفي والفكري من تداعيات المرض، في ظل الزعيق المخيف الذي تنميه السوشيال ميديا هو العامل الأخطر في بقاء الإنسان  يتعامل مع مرض الكورونا على إنه تهديد للبشر، ومحاولة إفنائه، وتغيير أنماط العيش والتفكير، وقذف كل منجزات الإنسان وتراثه، في ماضيه وحاضره ومستقبله إلى الجحيم. 
نحن لا نؤمن بنظرية المؤامرة، يقول العطوي، لكن أغلب الدلائل والمؤشرات السسيوجغرافية، منذ أن أصدر هانتنغتون كتابه (صدام الحضارات)  وفوكوياما كتابه (التاريخ ونهاية الإنسان) منتصف القرن العشرين، وانتهاء عصر القطب الواحد وانحلال الحرب الباردة صار الحديث يعود إلى الحروب الافتراضية بين الأقطاب المتنازعة على السيادة الاقتصادية والتجارية والتقنية، وترك الضعفاء لمصيرهم  المحتوم في حروب جرثومية سريعة. 
العطوي يعتقد أن سيادة الأخلاق الذرائعية التي تحاول قتل المليارات من البشر والإبقاء على عدد مقبول الناس في مجتمعات متقدة  هو الفكرة الشيطانية، التي أطلقت وباء الكورونا من قمقمه في سلسلة من الأجيال المطورة التي تقضي على كل التجمعات البشرية الخاملة، لذا وباء الكورونا نشاط أيديولوجي. 
                                             
قواعد اللعب السياسي
إذا كانت الفلسفة بصورتها المجردة ماضية إلى الحد من قلق الإنسان وتهدئته عبر الإجابة عن كيفية عيشه وطريقة تعاطيه مع الظواهر والكوارث التي تزاحمه على البقاء والاستمرار، فإنها بحسب الشاعر سراج محمد بالوقت نفسه، تأخذ بيده إلى الإقامة طويلاً داخل تلك الأشكال الطبيعية والأخرى الطارئة، لتمنحه الأذن بردة الفعل النسبية التي يتخذها جراء الفهم الذي توفره، شأنها بذلك شأن الأدب والفن، آخذة إطار العزاء وملامحه. 
ويرى محمد أنه بالقدر الذي نحتاج فيه للطب لمواجهة مثل هكذا انعطافات بيولوجية، نحتاج الفلسفة لتقدير حجم الكارثة ومخرجاتها. ويقول إنها: تخبرنا كم نحن معدمون وضعفاء، ولم نسيطر على العالم بعد، على خلاف ما يرى (هراري) بكتابه (الإنسان الإله). 
لقد أحرجت كورونا ومثيلاتها السابقة الإنسان وصارت دليلاً على هشاشته واضطرابه، وإن لم تكن قد جعلت مستقبل البشرية على المحك، غير أنها غيّرت الكثير من قواعد اللعب السياسي والاقتصادي والأيديولوجي. 
لقد بددت لدينا، وفق تعبير محمد، النشاط الجوهري للعقل، وأجبرت المليارات على العودة إلى تلك الآثار الحزينة كالتصوف والتخريف والشعوذة ، إلى خطة الإله الكونية بعد أن شارف الإنسان على عبادة نفسه وحضارته المتقدمة، لتحضر الأيديولوجيا بكامل أناقتها وقاعدتها الذهبية (أنا أولا)، ولتفتح نظرية المؤامرة الباب على مصراعيه لتأكيد أنانيتنا ومواقفنا المتطرفة إزاء من نعتقد أنه وراء تلك الكارثة، ليثبت لنا الفايروس العكس، لقد كان ديموقراطيا على حد تعبير أحد المعنيين بالصحة، ولم يستثن رأسمالياً أو شيوعياً أو طوبواويا، ترى ما الذي نفعله في عالم معافى ومتناغم وبلا مشكلات؟