الطبخ مع ايتالو كالفينو

ثقافة 2022/02/19
...

  فاليري ستيفرز
  ترجمة: هناء خليف غني
 
في رواية «ساكن الأشجار» للكاتب الأيطالي ايتالو كالفينو (1923 - 1985)، تسلق كوزيمو بيوفاسكو دي روندو، الشاب سليل العائلة النبيلة وحبة قلب أبويه، شجرةً في أحد الأماسي لأنه يرفض تناول العشاء، ثم بقي هناك ولم يعد قط لما تبقى من حياته. إنه موقفٌ صارمٌ إزاء وجبة طعام!.  
وهو موقفٌ صارمٌ كذلك إزاء عالمنا، «العالم كما هو»، مثلما كتب كالفينو ذات مرةٍ في رسالةٍ. ابتعد البارون الشاب وانزوى لأنه شعر بالاشمئزاز والقرف من انحطاط عائلته الاستقراطية وضيق أفقها وغبائها وتمسكها بالروح العسكرية وفسادها، ولأنها تُمثل، إلى جانب أشياء أخرى، رديفًا للحزب الشيوعي الايطالي. قاتل كالفينو في صفوف الأنصار الشيوعيين في الحرب العالمية الثانية ضد الفاشيين والنازيين؛ وهي التجربة التي شكلت رؤيته للعالم ومُثله، لكنه في أثناء تأليفه الرواية كان قد تنصل حديثًا عنها. تكشفُ وجبةُ العشاءِ المرفوضةِ - المؤلفة من طبق من القواقع قدمته أختٌ مجنونةٌ- جزئيًا عن تقزز من الحقائق التي كُشفت عن الحكم الستاليني. 
القواقع في بعض الثقافات تُعدَ وجبةً فاخرةً، لكنها هذه المرة جاءت من برميل من «الوحل الأكمد اللزج وبراز القواقع الملون». كما أعدَت الأخت «فطيرةً من كبد الفأر»، وثبتت «سيقان جراد، السيقان الخلفية الصلبة المُسننة» في كيكةٍ» بدت «مثل صورةٍ فسيفسائيةٍ». أما الطبق الأسوأ فهو «شيهمٌ كاملٌ بأشواكهِ» لم تكن حتى أخته ترغب في تذوقه. 
يجد البارون متعةً في التأرجح بين قمم الأشجار والقفز من فرعٍ إلى آخر ومراقبة العالم من الأعلى. إنَه يلتهم الكتب التهامًا ويضع نظريات ويُشيد قلاعًا من المعارف والخبرات. يقول كالفينو: إن «أيام كوزيمو الأولى بين الأشجار كانت تمضي بلا غاية ولا خطط، إذ لم يكن يشغله شيءٌ سوى الرغبة في المعرفة والعيش في مملكة خاصة به”. 
ستجد متعة كوزيمو الخالصة في التعلم صدى لها عند العديد من القراء، وهذا ما حدث معي. هذا يعني أن الانتقال للعيش في قمم الأشجار لا يمثل محض إدانة لجانبٍ سيء، بل هو، في جوهره، بحث عن الخير والصلاح. كان كوزيمو في حاجةٍ إلى أن يدخل عالمًا يتعذر عليه حيازته”، وحالما وصل إلى هناك “احتضنت عيناه أفقًا شمل في اتساعه كل شيء”.
في البدء، بدت كل الخسارات مهمةً ومميزةً. كوزيمو عاجزٌ لا يقوى على الاتيان بأي فعلٍ- فمشروعه الرائع المعنون “خطة لتأسيس الدولة المثالية المُشيدة بين الأشجار” لم يكتمل قط، ولم تكن قصة حبه العظيمة لفتاةٍ  تُدعى فايلونت أوفر حظًا، إذ انهارت سريعًا بعد بدايةٍ واعدةٍ. ولكن في الفصل قبل الأخير الذي يطلب فيه من القارئ (بظرافةٍ ومرحٍ، في عملٍ عن المفكرين) أن يكون بارعًا باللغتين الروسية والفرنسية، يقول البارون: “ولكني قد فعلت شيئًا مناسبًا للغاية هو العيش في الأشجار”. 
نعرف أن كالفينو كان مرتابًا بكل من الفردوس الذي يعد به الدين وبالمدن الفاضلة السياسية، ولذا، يشغل أي شيء “مناسبٌ للغاية” في رؤيته الكونية موقعًا متميزًا. لم يكن كالفينو يؤمن بالإجابات ولا النهايات، ولكنه في واحدةٍ من نهايتيه البديلتين في روايته المعروفة “مدنٌ لامرئية” كان قد عرض نسخةً أخرى من الجواب ذاته عن سؤال كيف تعيش في “العالم كما هو”: إن جحيم العيش ليس شيئًا سيكون؛ إذا كان هناك جحيم، فهو ما موجود هنا سلفًا، حيث نعيش يوميًا، ونُشكل عبر وجودنا معًا. هناك طريقان للنأي بأنفسنا عن معاناة الجحيم، أولهما سهل للجميع: أقبل بالجحيم وكن جزءًا منه بحيث لا تعود تراه. أما الثاني فمحفوف بالمخاطر ويتطلب يقظةً وتوجسًا دائمين: إن السعي للتعرف على منْ وماذا، في وسط الجحيم، لا يُعدَان جحيمًا، إذن اجعلهم يتحملون، امنحهم حيزًا.  
وهذا أسلوب آخر لقول: تسلق إلى قمم الأشجار وأعمل من هناك. لاحظ مايكل وود، محرر أحدث مجلدات رسائل كالفينو، أن مفردة “توجس” المترجمة تحمل في اللغة الايطالية مضمونًا أقوى يقترن بـ “التعلم”. كانت حياة كالفينو أنموذجًا لهذه المقاربة. إذ عمل مُحررًا لعقودٍ عند الناشر الأسطوري اينودي في مدينة تورين، ويُقتبس عنه قوله إنه كان يقضي مع كُتب الآخرين وقتًا أكثر مما يقضيه مع كتبه. وكانت مراسلاته تعريفًا بالمفكرين والفنانين والناشطين الايطاليين من مجايليه. تبدأ الرسائل في العادة “عزيزي انطونيوني”، “عزيزي بريمو”، “عزيزتي نتاليا”. 
قرأت مؤخرًا “ساكن الأشجار” بناءً على توصيةً من امرأةٍ كانت الرواية الكتاب المفضل لإحدى صديقاتها؛ أشخاص مثل هؤلاء من نوعٍ خاصٍ - ولكني عثرت منذ فترةٍ طويلةٍ على النوع ذاته من الإلهام في أعمال كالفينو الأخرى. في روايتي المُفضلة “لو أنَّ مسافرًا في ليلة شتاءٍ”، تنجرف “أنت” -أي القارئ- بعيدًا في بحثٍ مُحيرٍ ومتقطعٍ لا نهاية له عن مخطوطة “لو أنَ مسافرًا في ليلة شتاءٍ”؛ وهي رواية كالفينو الجديدة، مثلما تُبين الجملة الافتتاحية. أو ربما ستُفضل كتابًا آخر حل توافقًا محل هذه الرواية؟، كل فصل من فصول الرواية يرفع من قيمة الرهان على الخدعة النصيَّة ويُقدم في الوقت نفسه جزءًا سرديًا جديدًا مؤثرًا في مقروئيته بحبكات وشخصيات جديدة تمامًا. هل هناك كاتبٌ آخر عنده ثروات مثل هذه ينفقها حيث يُمكنه اختراع روايةٍ وطرحها جانبًا في كل فصل؟، هل هناك كِتاب آخر كرس هذا القدر من الاهتمام بشكل الكُتب؟، إن أفكار كالفينو مُبهجة ومُشعة للغاية. 
كان لا بدَّ لي أن أكون بمستوى عبقرية كالفينو وإبداعه وبراعته عندما حاولت تسلق الأشجار بنفسي واخترعت سلسلةً من الفطائر المُستلهمة من نصوص كالفينو، فطائر متداخلة في مكوناتها مثل الفصول في “لو أنَّ مُسافرًا”، ومن مكوناتها فاكهة الأشجار ومكسراتها من البارون، ساكن الأشجار. اعتمدت في خطتي كذلك على ملاحظة وردت في ترجمة حياة كالفينو هي أن والديه كانا نباتيين، وأن والده كان من طلائع المؤيدين لزراعة أشجال الفواكه الغريبة في ايطاليا، أمرٌ جعلني أشعر أن زراعة شجرة فاكهة أو مكسرات كانت لعبة جميلة. 
ستستخدم هذه الفطائر الرفيعة مفاهيميا مواد مبتكرة مثل المعجنات الرقيقة الخفيفة، وحلوى المرنغ الايطالية، وحشوة الكاستر المبرد، والقشور المُحمصة وطبقات الحلوى. ثم اخترت القائمة الآتية المؤلفة من خمسة أطباق، كما شاهدتها في الصور الخاصة بهذه القصة: فطيرة مرنغ بالكرز حامضة مع تلبيسة مطبوخة بالمكسرات؛ تورتة بندق بالمشمش وجبنة الماسكاربوني؛ فطيرة خوخ مُحمصة القعر تعلوها طبقة من جبنة ماسكاربوني؛ فطيرة كريمة-اللوز مع طبقة شوكولا؛ وفطيرة دقيق مع جريبفروت مع طبقة لوز وأكليل-الجبل. تشترك كل واحدة من الفطائر في مكونٍ أساسي مع الفطيرة التي تسبقها، وتشترك الأخيرة، فطيرة الجريبفروت الرقيقة الخفيفة، مع الأولى، أي فطيرة مرنغ الكرز الحامضة، ببياض البيض المخفوق بالسكر.
قد يكون واضحًا سلفًا للقارئ الحصيف أني قد فقدت عقلي. فالنجاحات السابقة في المطبخ قد حملتني على الاعتقاد أن الطعام الذي أعده سينجح غالبًا وأن بقدرتي أن أفعل أي شيء بقدرٍ كافٍ من التخطيط المسبق. وكما قال كالفينو عن الأخت المجنونة التي تطبخ الوجبات في الرواية: “كانت تتمتع باليقظة والخيال، وهي المواهب الأساسية لكل طباخ”. وأنا عندي ما يكفي من هاتين الصفتين. إذ أعددت خمس فطائر لحفلةٍ سابقةٍ بلا مشكلة، لم يكن فيها مكونات كثيرة، ولم اعتمد في إعدادها على تقنيات مُبتكرة.  
كل إبداعاتي في الطبخ كانت صالحة للأكل -كلها كانت حلوة المذاق، على الأقل، وهذا لا ينفي أني قد واجهت العديد من المصاعب. إذ تتألف فطيرة مرنغ الليمون العادية، مثلًا، من حشوة لبن رائب وتلبيسة مرنغ ايطالية. فكرت في إعداد الخثارة من الكرز الحامض الذي يكون لاذعًا في  طعمه مثل الليمون، غير أن نكهة الكرز لم تكن مناسبةً والطعم كان غريبًا وحسب. استخدمت في إعداد وصفة تورتة البندق الشجرية البيض والعسل كمادة رابطة، وكان ينبغي لي أن أعرف أن في استخدامهما مشكلة، غير أن الميزة في هذه المادة هي أنها شيء يُمكنني صبه فوق كمية غير منتظمة من البندق، ولذا، اخترت إعدادها على أية حال. كانت شبيهة بفطيرة زعتر البر وكبيرة الحجم. تقول نسختي من “إنجيل النكهة” أن الشوكولا والخوخ لذيذان معًا، إلا أن “الطبقة التحتية السوداء” التي شكلتها الشوكولا في فطيرة الخوخ لم تفد شيئًا. استخدمت في فطيرة كريمة-اللوز عُصارة اللوز لتعزيز النكهات، لكن طعمها كان مُصطنعًا. ولم أدع كريمة الفطيرة تنضج على النار مدةً كافيةً، ولذا لم أحصل على النتيجة المتوقعة. كان طعم عجينة الجريبفروت لذيذًا للغاية، لكن الحشوة لم تكن بالحجم المناسب. والأسوأ من ذلك، التعديلات التي اجريتها على وصفة “بسكويت الجوز” التي استعرتها من كتاب روز ليفي بيرنابوم “الفطيرة وإنجيل المعجنات” التي لم تأخذ الشكل المطلوب وبدا طعمها غريبًا بعد طبخها في الفرن. لم تكن تجربةً مشجعةً.  
وخلافًا لأخت البارون المجنونة، لم يكن بقدرتي حمل نفسي على تقديم طعام فظيع للآخرين، ولذا، فقد عدلت في الوصفات (وحتى اختبرت بعضها إلى حدٍ ما) كي أُقدم فطائر بطعم أفضل، وهذا ما آمله. والأكثر نجاحًا من هذه المحاولات المتكررة هو مبادلة فطيرة كريمة-اللوز المُضافة إلى شريحة كعك أسمر بفطيرة كريمة تاراغون على شريحة جبن اوريو، أحد اختراعاتي التي نجحت عمليًا. الصور لن تكون ترجمانًا حقيقيًا للوصفات المُعدة، ولذا، فكر في الأمر الآتي، عزيزي القارئ، في مشروع تحميص قصة-تجريبية حيث تدخل القصة بوصفك كاتبًا له أسلوبه الخاص. وفكر في فطائرنا بوصفها عملًا قيد الإعداد مثلما يقول كاتبنا العظيم عن حياة العقل.