العاطفة والمسرات

ثقافة 2022/02/19
...

ستار كاووش

نَعرض اليوم بورتريت (فريدريكا ماريا بيير) للفنان النمساوي غوستاف كليمت (1862 - 1918) هذا الفنان الذي تمتلئ لوحاته بعاطفة ومسرات عديدة يخلقها من خلال معالجات اللون الأخّاذة والتكوينات الفريدة، حيث نُصاب بالدهشة جراء توليف هذا الفنان لتفاصيل تبدو متباعدة، لكنه جمعها على قماشاته بطريقة العارف والمبتكر.
فقد مزجَ في لوحاته بين الخشوع واللذة، النسك والانسجام، الفجور والرفعة، الارستقراطية والبوهيمية، مناخات الشرق وأجواء الغرب، فكانت النتيجة عبادة وسط الجمال، حيث بقع الضوء تلتمع هنا وتتوهج هناك مثل الجواهر.
إنها ليست لوحات، بل لقى نفيسة وكنوز صنعتها أصابع ماهرة وروح زاخرة بكل ما هو صاف ونبيل.
في هذه اللوحة التي رسمها كليمت سنة 1916 نرى كيف وظف كليمت الفن الياباني في الخلفية، وكيف استلهمَ الكثير من الزخارف الشرقية، حيث تقف فريدريكا بملابسها المزخرفة التي اختارها الفنان بعناية كي تتلاءم مع ألوانه، تنظر نحو عين الرسام غير مبالية، وتبدو على ملامحها بعض الكآبة وربما الضجر، وهيأتها هنا تتعارض تماماً مع الخلفية الصاخبة التي تبدو كساحة قتالٍ تدور فيها معارك وجولات.
لكن رغم ذلك تمكث فريدريكا هادئة في مكانها بانتظار أن ينتهي الرسام من لوحته، تنظر نحوه ببعض الحزن والضجر، غير عارفة بأن لوحتها ستتحول إلى إيقونة في تاريخ الفن. 
كل شيء يمسكهُ كليمت يغدو حرزاً جمالياً وقطعة فنية نفيسة، وكل سطح يمرر عليه فرشاته يصير جزءاً من حكاياته الملونة التي تأتي من مكان سري وبعيد، هذه الحكايات التي يقدمها بتقنية متقدمة وفريدة وخاصة، وبطريقة تقترب من التصوف والتحليق في عوالم خيالية فيها الكثير من الطمأنينة والتناغم الروحي. 
نشأ كليمت في بيت يهتم بالفن، فوالده كان نقاشاً على الذهب وأمه موسيقية موهوبة بينما درسَ أخواه أرنست وجورج معه في أكاديمية الفنون التطبيقية. وقد عاشَ كليمت كل حياته مع أمه وشقيقتيه غير المتزوجتين، حيث كان يقضي يومه في المرسم، وعند عودته إلى البيت مساءً، يتناول عشاءه بصمت ثم ينام.
لكنه من ناحية أخرى كان زير نساء ربطته الكثير من العلاقات العاطفية مع نساء الطبقات الراقية في فيينا. وارتبط فترة طويلة بعلاقة مع إيميلي فلوغ التي كانت تصمم له الملابس المستوحاة من الشرق عادة، حيث كانا غالباً ما يظهران معاً بملابس فضفاضة وكأنهما قد سبقا الهيبيين بمظهرهما الغريب.  
يعتبر كليمت أعظم وأشهر فنان أنجبته النمسا، واستخدمت أعماله في الدعاية والإعلان والأفلام وقطع الملابس والاكسسوارات والتصميم وأغلفة الكتب وغيرها الكثير.
وقد بدأ خطواته الفنية كرسام واقعي، ثم تحول إلى أسلوب فريد في الرسم يحمل خصوصية مذهلة مزج فيه الفن الزخرفي والطباعة اليابانية وورق الذهب والتصميم والفن الرمزي ومناخات ما قبل الروفائيلية، لتكون النتيجة فناً شخصياً يصعب تصنيفه بسهولة، لكن من السهل معرفة كم هو فن عظيم ويحمل الكثير من الهيبة والفخامة والتأثير.