الفتاة التي طردها المتنبي..!

ثقافة 2022/02/21
...

ابتهال بليبل
 
في كلّ مرّة يتمّ فيها الاحتفاء بتلميع وترميم وإضاءة شارع الثقافة والكتب (المتنبي).. هذا الشارع الذي تضجّ أزقته بتفاصيل حياتنا –نحن عشّاق المعرفة- كنت أشعر أنّه لا جدوى، وأنا أرنو بخوف وقلق إلى معنى الإنسانية بداخلنا! 
قبل أيام حاولت فتاة شابة عرض مجموعة من الكتب للبيع على أرضية هذا الشارع فاعترض بعض أصحاب تلك (البسطيات) القريبة ودور النشر وطردوها بذريعة أن الأماكن كلها محجوزة، ولا يحق لها استغلال أي مساحة هنا مهما كانت صغيرة. 
المتنبي.. الشارع الذي يمثّل ميزان الثقافة العراقية ومن المفترض أن تتجسّد فيه روح المدنية العراقية وتتجلى داخله إنسانية المثقف والفيلسوف والشاعر بغضّ النظر عن كل ارهاصات الخارج -خارج الشارع- ومشاكله بدأ لي وكأنّه المكان الأبشع والأبعد عن كلّ ما هو مفترض أن يوجد فيه.  
إنّ الشعور المروّع بالقمع الذي يحاصرنا عندما نتواجد في مجتمع يحتفي بأنواع القيود كلها، خاصة تلك التي تتعلق بالجنس، وبشكل أكثر تحديدا ما يدور منها حول الأنثى، هذا الشعور، الذي يتم نقله بشكل خاص عبر (المكان) أو الرمزية الجغرافية والمادية، يتناقض باستمرار مع الشعور بالحرية الذي يتم التعبير عنه من خلال ملايين الكتب التي تباع هناك ويروّج أغلبها للعدل والحرية والمساواة! 
قصّة هذه الفتاة تصوير أنموذجي لما يمكن أن يفرضه (المكان) على (المكين)، وتطرح أيضا الصراع الغامض، وغير المتسق بين الجنسين، هذا الصراع الذي يعزّز ويؤكد الفروق غير الواضحة التي تحيط بجنس العامل، فلا ضرورة لعمل فتاة أو أنثى في بيع الكتب بهذا الشارع من دون حصولها على موافقة ورضا أصحاب المكتبات هناك وباعة الكتب من الذكور! 
فالبائعات بالأجر في بعض تلك المكتبات يعملن على وفق إملاءات الإدارة التي دائما ما تكون للرجال، لكن مهما كانت الديناميكية التي تحكم ذلك الصراع، فإن مثل هذه التكوينات المتنقلة في ثقافة عمل البائعات أبقتهن في وضع غير مناسب اجتماعياً واقتصادياً.
ولأن العمل يعالج سياسات كلّ من الطبقة والجندر ضمن المجالات الخطابية المتداخلة، فإنه يجسّد العديد من العلاقات الاجتماعية المتضاربة والمواقف المتغيرة المتعلقة بالمرأة وعملها في فترات البطالة والفقر. 
على الرغم من أن عمل الفتيات يوفر الرضا الشخصي -كما تأمل النسويات– إلّا أنه يتلاءم مع أيديولوجية المكان المناسب لمن لم تفعل الكثير لزعزعة الوضع الاجتماعي الراهن.
إنّ إبعاد أو تعليق أو طرد الفتيات خارج مكان العمل، أثناء التنقل بين البيئات بلحاظ صفاتهن الأنثوية، لم يكن مفاجئاً عندما نركز على المواقف المعاصرة تجاههن وكأنها تهدّد عمل الرجال، وتعزّز أيضاً للاعتقاد المحافظ بأن مظهر المرأة وسماتها ستثبت أنها أكثر ديمومة من خصوصيات المهنة.
ويعود جذور ذلك إلى نمطيتين مختلفتين (للكُتبيات) تدمج فيهما التاريخية والمعاصرة وتشمل القضايا المعقدة المتعلقة بالمحسوبية الواضحة، فترى هذا المجتمع ينظر في الخفاء إلى بائعة الكتب على أنها، بحسب النسويات (بطلة ثقافية رومانسية) بينما غالباً ما يُصوّر المثقف والفنان والروائي والشاعر في العلن على أنّه الداعم الذي يضحي من أجل الإنسانية والعدالة. الأمر الذي لا يثير لدي -وأنا أتأمّل ما جرى لتلك الفتاة- غير السخرية والوجع المرّ.