دبلوماسيَّة المواقف والدهاء

آراء 2022/02/22
...

  قاسم حسين الربيعي
 
هناك الكثير من الصفات التي يجب أن يتمتع بها المفاوض الجيد، واحدة من أهم هذه الصفات هي الدهاء (الذكاء)، التي يمكن من خلالها المفاوض أن يناور ويستخدم الدهاء من أجل تحويل مجرى المفاوضات لاتجاة معين أو كسبها، وأن أيَّ عملية تفاوضية يكون لكل فريق تفاوضي نقاط قوة ونقاط ضعف، التي يحاول الفريق من خلال نقاط القوة كسب المفاوضات، لكن عندما تكون نقاط القوة ضعيفة او قليلة، قد يخسر الفريق المفاوض المفاوضات.
اذ هناك وسيلة لجأ لها بعض القادة ورؤساء الدول من أجل عدم خسارة المفاوضات، وكان للرئيس الراحل حافظ الأسد باع طويل في هذا الجانب، اذ ظهره ذكاءه خلال المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية من أجل توقيع اتفاقية سلام مع (اسرائيل) على غرار اتفاقية ( كامب ديفيد)، الذي استطاع حافظ الأسد بذكائه كسب المفاوضات التي جرت بينه وبين ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر، الذي قال في مذكراته عن لقائه الأول بالرئيس حافظ الأسد: (فردتُ عضلاتي الثقافية والسياسية  أمام الرئيس حافظ الأسد، ورحت أستعرض أحداثاً تاريخية وسياسية  لساعتين، والرئيس يصغي بكل اهتمام ودون أن يهمس بكلمة، عندما انتهيت؛ أعطاني محاضرةً استمرت حتى الخامسة صباحاً…) يقول كيسنجر، (لقد كان هذا أوَّل درسٍ تلقيتهُ 
من الأسد). 
علماً ان المفاوضات بين الأسد وكيسنجر دامت 136 ساعة، في 12 لقاء خلال شهرٍ واحد، قال عنها كيسنجر: (كلما اعتقدتُ أننا وصلنا لنهاية الجلسة،  يعودُ الأسد في الحديث إلى نقطة الصفر استطاع الأسد بهذا الأسلوب فرض نفوذه على حساب أيامٍ من القلقِ والتَّوتُّر التي عِشتُها).
 وثم استكمل المفاوضات مع الأسد خلال حقبة التسعينات وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية جيمس بيكر، والذي تحدث في مذكراته عنها التي تحمل عنوان (سياسة الدبلوماسية)، الذي خصص جزءًا منها للمفاوضات مع الاسد، اذ التقى بيكر الرئيس الأسد 11 مرة، واحد من أهم هذه اللقاءات التي يذكرها بيكر وصفها بقوله: (أصعب وأشق مفاوضات أجريها على الإطلاق واستغرق الاجتماع تسع ساعات و46 دقيقة دون انقطاع فى غرفة خانقة لا تطاق، لا يسرى فيها سوى النذر اليسير من الهواء المكيف، بنوافذ مغلقة واقية من الرصاص تخفيها ستائر سميكة زيتونية اللون!)
وضيّفنا الأسد بتقديم القهوة التركية الثقيلة وعصير الليمون شديد الحلاوة غير المثلج، الذي شربت منه كميات غزيرة بسبب شدة الحرارة، وبعد مرور ست ساعات على بدء الاجتماع ألح (نداء الطبيعة)على السفير أدوارد جيرجيان سفيرنا فى 
دمشق.
وفيما أسهب الأسد في حديثه المطول معدداً شرور اتفاقية (سايكس بيكو)، بلغ الموقف حداً حرجاً، وكتب جيرجيان رسالة بخط منعكس قال فيها: (الوقت ملائم الآن للذهاب إلى دورة المياه! كانت كليتاي تعملان بنشاط يستعصى تفسيره، فأشرت له بالخروج، وأومأ إلى وزير الخارجية السوري بأنه يحتاج إلى إجراء مكالمة عاجلة 
مهمة).
وبعد ساعة أو أكثر سحبت منديلا أبيض ولوحت به للأسد وأعلنت استسلامي على أن أذهب إلى الحمام! وهكذا نحت الوصف الذي سأظل أطلقه دائما على مباحثاتي لثلاث وستين ساعة مع الأسد (بدبلوماسية 
المثانة)!!
ويصف بيكر طريقة الأسد فى المناقشات بقوله: (كنا دائما نجلس متجاورين على مقعدين كبيرين وثيرين يشعرانني بأنني أبدو كالقزم والأسد يشبه أبوالهول، فقدماه ملتصقتان بالأرض وركبتاه مضمومتان ويداه معقودتان فى حجره، ولا يغير هذا الوضع على الإطلاق!! وكم كنت فى حاجة دائما لإجراء (مساج) عقب كل لقاء معه حيث كان النظر إلى يساري بزاوية تسعين درجة يصيب رقبتي بالتشنج!!).
استطاع الأسد بهذا الأسلوب والطريقة الذكية فرض نفوذه في المفاوضات المصيرية والصعبة، وعدم 
خسارتها.
 كما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدم هذه الطريقة في الكثير من القمم واللقاءات التفاوضية، اذ في عام 2007، وخلال لقاء بوتين مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في مدينة سوتشي الروسية، لتباحث حول حول قضايا الطاقة، وإذ بكلب بوتين الأسود (كوني) يتمسح على ساقيها ويشمها، وهو ما تسبب في توتر المستشارة، وأرعبها، وربما تبعثرت أفكارها، وأصبحت في حيرة من أمرها، لا سيما أنها تعاني من فوبيا من الكلاب منذ أن عضها كلب في عام 1995. 
 وفي عام 2019، حصلت قمة بين الرئيس بوتين ورئيس الولايات المتحدة الأميركية ترامب في مدينة أوساكا اليابانية على هامش اجتماع دول العشرين، كان بوتين يصطحب معه مترجمة فاتنة للغاية ذات شعر طويل ووجه جميل وشخصية جذابة وكانت ترتدي بدلة جلدية قصيرة، والمعروف عن الرئيس ترامب بافتتانه بالنساء وهذا ما جعل ستيفاني غريشام الرئيسة السابقة لمكتب ترامب الإعلامي، تذكر ذلك في مذكرتها التي تحمل عنوان (الآن سأجيب عن أسئلتكم: ما رأيته في البيت الأبيض في عهد ترامب) (عندما بدأ اللقاء انحنت المستشارة فيونا هيل نحوي وسألتني عما إذا كنت لاحظت مترجمة بوتين، السمراء الجذابة ذات الشعر الداكن الطويل، والوجه الحسن، 
والقدّ الميّاس).
(ثم قالت لي إن بوتين اختار هذه المرأة خصيصا لكي يشتت انتباه رئيسنا)، كما نوهت في الكتاب بأنها رأت الرئيس الأميركي يميل نحو بوتين في ذلك اليوم ويقول له هامساً:(سأكون أكثر صرامة معك لبضع دقائق، فقط أمام الكاميرات، وبمجرد مغادرة الصحافيين، سأكون لطيفا وسنتحدث عندما نخلو إلى بعض أنتم تفهمون 
ما أقصد). 
وفي الخامس من آذار 2020، استقبل بوتين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد أسبوع من مقتل 34 جنديًا تركيا في قصف جوي بإدلب شمال غرب سوريا، وقد كان أردوغان غضبا، خصوصاً أن بوتين أبقاه منتظراً، قبل أن يظهر ويطلب منه الجلوس تحت ساعة ذهبية، وُضِع فوق إطارها تمثال برونزي للإمبراطورة (كاثرين الثانية) المعروفة بغزو شبه جزيرة القرم وانتزاعها على أثر معركة مع الإمبراطورية العثمانية في عام 1783.
 وهناك الكثير من المواقف التي استخدمها بوتين مع رؤساء الدول من أجل إيصال من خلالها رسائل. لكن تمَّ التركيز على أهمها، وكان آخرها مع زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى روسيا، الذي جاءه مفاوضاً مفوضاً من قبل الغرب حول القضية الاوكرانية، والذي استطاع بوتين ايصال رسائل عميقة.. في اللقاء من خلال طريقة الجلوس على طاولة كبيرة ومتباعدة، جعل العالم يفهم أن ما بين ما مطروح وما تريده روسيا بعيداً جداً، كم تم اخراج المترجمين من اللقاء والاكتفاء بسماعات الاذن للترجمة، فسر ذلك بأن روسيا ترفض الوسطاء في القضية الاوكرانية، ويريد بوتين فرض لهجة بلادة. 
وخلاصة ما تقدم نرى هناك رؤساء استطاعوا بكسب المفاوض وهذا يرجع 
لعدة أمور:
1 - استخدام الذكاء (الدهاء) اتجاة الطرف الاخر وإن كان الاخير يمتلك نقاط قوة في 
المفاوضات.
2 - الكاريزما التي يمتلكها الرؤساء لعبت دوراً مهماً بالتأثير بالضيوف والسيطرة عليهم، مهما كانت قوة دولة 
الضيف. 
3 - استخدام المواقف والتصرفات المقصودة اتجاه الضيف التي تمَّ من خلالها ايصال رسائل أعمق من المفاوضات والنقاشات 
المباشرة. 
 لذا أرى فضلاً عن الصفات التي يجب أن يتمتع بها المفاوض الجيد (الذكاء، الخبرة، الاستماع الجيد، طرح الاسئلة، والثقافة العامة) تعتبر أهم صفة في المفاوض الجيد (الكاريزما)، التي يمكن من خلالها التأثير بالطرف الآخر والسيطرة عليه.
  دبلوماسي عراقي