إنسي الحاج جهة الطيران والغرق

ثقافة 2022/02/22
...

 علي محمود خضيّر
 
ثمانِي سنوات مرت على خبر غياب أنسي الحاج. أقول خبر، لأن الأخبار قد تكون كاذبة، وهذا ما أريد تصديقه عن أُنسي. تكذيب الغياب. ما يُعينني، على ذلك، دهشتي – في حياته- كلما قرأت شعره، أو شذرة من (خواتمه) النادرة؛ أقول، لا يمكن لهذا الشاعر أن يكون مقيماً في بيروت، أو أي مكان آخر، هذا كاتبٌ يأتي من جهة أخرى، خارج الخرائط وجزر التاريخ، يأتي من «جهة الطيران والغرق معاً». لذا، حين وصلني خبر غيابه، قررتُ، كنوع من المقاومة اللا إرادية؛ أنه لم يمت، بل انتقل إلى جهته الأثيرة التي كان يسكنها أساساً.
 
**
أنسي لحظة خاصة في الشعرية العربية، نسيج منفرد لوحده. أغنية تبدأ حين تصمت الآلات. كان ذلك العصب المشدود من جذر المشكلة العربية إلى آخر أغصان الحلم الطوباوي الذي عذّب المثقف العربي مطلع القرن المنصرم. ذلك الحلم الذي تكسّر بلا رحمة على صخرة خيبات الواقع السياسي. استبداد، حروب، تطرف، واحتراب طائفي جعل الشاعر ينسحب إلى نفسه معتزلاً الكتابة والحياة بعد أن كان تياراً ساحقاً من «التدمير النبيل».
 
**
سباق أنسي لم يكن مع المورث الثقافي والشعري، ولا مع القيم التي ظلّت تشد المجتمع العربي إلى بطون الماضي الغابر فحسب. كان سباقه الأكثر إثارة مع اللغة، بيت الشعر، ومنفاه. لم يستَكِنْ إلى لغة إلّا ليمضي في سبيل لغة أخرى. حريّة اللغة عنده لم تكتف بخروجه عن سياقات بناء الجملة العربية وحتى قواعدها –متحمّلاً اتهامه بالركاكة- بل إنه –في اعتقادي- نجح في تحقيق اختراق جاد من العسير تكراره لاستعمالات العربية شعرياً، مستفيداً من موهبته الفذة، ومرجعيات متقاطعة، بعضها ديني وبعضها ثقافي. «لغة الشاعر الحر يجب أن تظل تلحقه. لتستطيع أن تواكبه عليها بالموت والحياة كل لحظة. الشاعر لا ينام على لغة».
 
**
«أقولُ شعري، حتى الغنائيّ منه، بتقشف» يقول أنسي واصفاً إلقاءه. غنائيّة أنسي جامحة ومذاقها خاص، غنائيّة تجمع الوضوح والعمق بالغموض والتوحش. رشقٌ من إنشاد هدّار يتغذّى على عصب الحياة والمعرفة، لكنه إنشاد يُقال بمباغتة هي إحدى أبرز سمات قصيدته.
نقرأ أول السطر ونظن أننا سنمسك بآخره ضمن نظام التوقّع الذي ترسمه مخيلة القارئ عادة أثناء القراءة، لكن الشاعر يُباغتنا بخيوط متقاطعة كاسراً أفق التوقع بحجر المباغتة:
«كنت أعاطش العطش وألاعب الألعاب
لأني كنت أظن لديّ الوقت.
لكني أرى كلامي يتقدم سريعاً ويسبقني
ويجب أن أركض وراء النار ان لم تنطفئ
قبل أن تنطفئ النار
وأسجد أمامها سجود الشدّة
وأجيب فأفتح كتابي.
وفوق المدينة أقول شرف الحب
وبقدميه اجتاز الحقارة.
**
منذ مطلع 2011 حتى 2014 وأنا أضيّع الفرصة تلو الفرصة في الاتصال بأنسي الحاج. كانت لي صديقة تعمل في جريدة “ الأخبار”، مكتبها قريب على مكتبه، لكني أؤجل الموعد، وهذه مثلبة خسرت بسببها لقاءات (تاريخية) على الصعيد الشخصيّ. حين أكملت أسئلة الحوار وبعثتُ بها إلى الصديقة، جاءني الجواب: «الأستاذ طلب إجازة قد تطول. ثمة خطب في صحته!». لم يعد الأستاذ. ندمتُ آن لا ينفع الندم.
أُورد الحكاية لأقول للواقفين على شطآن الشعراء: لا تلوّحوا بالمناديل! ولكن خوضوا لجج شغفكم وانتزعوا لؤلؤة المعنى! اسرقوها! قبل أن تتحطّم السفينة أو يقفز شاعرها إلى عائداً إلى جهة الغرق والطيران
معاً.