عـن الـحـارس والـثــورة

ثقافة 2022/02/22
...

 نجم والي 
 
إلى نائب العريف "السابق" الصديق صباح حسن
التاريخ: 31 كانون الثاني 1979
المكان: گراج ومستودعات المعدات العسكرية لكتائب الاستمكان معسكر المحاويل للمدفعية والصواريخ.
كيف لي نسيان هذا التاريخ وهذا المكان. كانت تلك هي المرة الأولى التي كُلفت فيها في الجيش بواجب الحراسة، بل المرة الأولى التي سُمح لي فيها بحمل السلاح. حتى تلك الليلة توزعت خدمتي العسكرية بين معسكر تدريب وبين استخدام في القاعدة البحرية في البصرة، مترجماً لجنرالين "شيوعيين من ألمانيا "اللا" الديموقراطية، ألمانيا الشرقية. كانت مرت قرابة ستة شهور على حياتي العسكرية، ولأنني خريج جامعة وغير بعثي، حملت رتبة نائب عريف. البعثيون من الخريجين حملوا رتبة ملازم، لكن ذلك موضوع آخر. أتذكر أنني طوال مدة خدمتي تلك، كنت أشعر أني هناك بالخطأ ولا يغير الأمر، أنني لبست الخاكي والبسطال. حتى الرشاش الذي استقر على كتفي تلك الليلة، لم يمنح أي شعور بالإطمئنان. لا أول شهرين خدمتي، (آب - تشرين الأول 1978) في معسكر التاجي مع خريجي كلية العلوم جامعة بغداد، ولا الأربعة شهور الأخرى (أكتوبر 1978- كانون الثاني 1979) في قسم الرياضة القاعدة البحرية في البصرة، جعلوني أشعر، أنني جندي عليه الدفاع عن الوطن ذات يوم.
كنت طوال فترة خدمتي العسكرية (تسرحت أواخر آب 1980) أشعر أنني رقم فائض، وليس كما هو مكتوب في دفتر خدمتي العسكرية (احتفظ به لليوم)، الجندي المكلف نائب عريف الرادار رقم 783211. لست وحدي من كان يفكر بذلك. كانت الدولة أيضاً تفكر بأنني جسم طارئ، غريب. لنقل أنه شعور متبادل بين الدولة البعثية وبيني، كنت مراقباً، شخصاً مشكوكاً بإخلاصه (يقولون للوطن ويعنون النظام!)، ولا أعتقد أن الدولة أخطأت الظن، لأنني على عكس زملائي الخريجين، لم أكن مطيعاً مثلهم، كانوا حريصين على تنفيذ الأوامر لينهوا خدمتهم في اليوم المحدد (23 شهراً لخريجي الدراسات الإنسانية، و21 شهراً لخريجي الدراسات العلمية). كم ساعة منبه رميتها صباحاً إلى الحائط، لمواصلة النوم، كانت الرحلة من بغداد إلى معسكر المحاويل جنوب الحلة، حيث وحدتي، تستغرق الساعة والنصف الساعة في باص الريم، وكان عليّ النهوض الساعة الثالثة فجراً.
الغيابات وعصيان الأوامر ولاحقاً السجن في زنازين الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع في الميدان أطالوا خدمتي شهوراً أخرى. لحسن الحظ تسرحت قبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية بأسابيع! لكن عصيان الأوامر العسكرية بالذات أضاف لي سمعة جديدة في المعسكر. فإذا كنت مسبقاً شخصاً مشكوكاً فيه، كما يقول ملفي الذي أرسلته ورائي مديرية أمن العمارة، فإن المخالفات أضافت الغموض. شخص مثلي، خريج كلية آداب، وقادم من الجنوب، هو أصلاً شخص مثير للالتباس للبعثيين، لماذا جاء للمعسكر وليس معه كتاب الترحيل الحزبي (البعثي طبعاً)؟ كيف أن هذا الخريج غير منتم للبعث، والحكمة القرقوشية التي أطلقها القائد "البعرورة" تقول: "كل مواطن بعثي وإن لم ينتم"؟
في معسكر التاجي للتدريب في بغداد، قضيت ليلة في الحبس، لأن انضباط باب المعسكر (أغلبهم بسحنة بدوية وشوارب كثة)، "ضبطوا" في حقيبتي كتابين لطه حسين، من الممكن أن يسامحوني على أحدهم، "حديث الأربعاء" (أية مفارقة اخترت هذا العنوان عنواناً لمقالي الأسبوعي هنا!)، لكن الثاني؟ "الفتنة الكبرى"؟ كلا؟ من يحمل كتاباً مثل هذا وقادم من "العمارة" الجنوب، خطط بالتأكيد لإثارة الفتنة في المعسكر، كما أخبرني ضابط التوجيه السياسي صباح اليوم الثاني. في القاعدة البحرية في البصرة، تنبأ لي الجنرالان الألمانيان بمستقبل أسود حال مغادرتهما. كم دوختهما بسؤالي المتكرر عن سبب دعم حكومتهما الشيوعية النظام البعثي ببناء أجهزة أمنية في قسم الرياضة للقاعدة البحرية، والنظام قد أعدم في ربيع ذلك العام 31 شيوعاً من "رفاقهم" العراقيين؟ وكان جوابهما، "في العراق نظام حكم شعبي معاد للإمبريالية لا نريد له الانتهاء في أحضان الإمبريالية"، وكانا يعيدان اسطوانة مشخوطة آنذاك للروسي سوسولوف وحديثه عن "خرافة" الأنظمة العسكرية العربية بصفتها أنظمة "ديموقراطية شعبية" ليست ديكتاتورية، (بعد عام على رحيلهم، اعتقلني بالفعل نظامهم "المعادي للإمبريالية").
الآن، وأنا أتذكر، أقول: صحيح أنني شعرت بأن لا لزوم لي على ملاك الجيش، إلا أن المرة الأولى التي شعرت فيها بأن أصبح لا لزوم لي في كل البلاد، حدثت في فجر الواحد والثلاثين كانون الثاني 1979.
كان قد مرّ يومان لالتحاقي بكتيبة الاستمكان الأولى، البطارية الرابعة، رعيل الرادار، وكنت كجندي "مستجد" هدية هبطت من السماء. أغلب الجنود المتطوعين في هذه الكتيبة كانوا من الفنيين، أغلبهم بشهادة الدراسة المتوسطة، وصلوا إلى رتبة عريف ورئيس عرفاء، مما يعني شحة ما يُسمى في اللغة العسكرية: الموجود. 
لقد عاز الكتيبة الجنود البسطاء للقيام بالواجبات. لهذا يتحول جندي "مستجد" إلى "كيس" واجبات. هل أقول لحسن الحظ أم لسوئه، أنني وقفت ليلتئذ حارساً عند بوابة مستودعات الكتيبة؟
كانت ليلة باردة جداً على ما أتذكر، وكنا ثلاثة جنود، وكان على كل واحد منا الحراسة لمدة ساعتين، والنوم أربع ساعات، ولأنني "مستجد"، وتلك هي حراستي الأولى، لم أعرف أن الجنود، ينتظرون زميلهم ينام، ليغيروا عقارب الساعة، هناك دائماً فارق نصف ساعة على الأقل، من لا ساعة بيده، كما حدث لي، لن يكتشف ما سُرق منه من وقت، في ساعات الفجر الأولى من 31 كانون الثاني 1979، وقفت أحرس وكنت قد أسندت ظهري للحائط عند البوابة، كان لا بد أن تكون عيناي مغمضتين، لأنني لم أر في الأول لا القدم التي ركلتني، وجعلتني أسقط أرضاً، ولا العصا التي هبطت على ذراعي وجعلتني أنهض، حتى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر بألم وإذلال تلك الضربات، كانا ضابطين من الكتيبة، ملازم الأول قاسم الحلو، آمر رعيلنا، الرادار، والنقيب حيدر كريدي، المساعد الثاني في الكتيبة (المساعد لقب اخترعه البعثيون للضابط الذي يدير شؤون أمن الكتيبة). 
الذي ركلني هو قاسم الحلو، والذي ضربني بالعصا هو حيدر كريدي، في الوهلة الأولى ظننت، أنهما عاقباني لنومي، وأنا واقف، لكن عندما رأيت ضابط الأمن يلتقط راديو الترانستير الذي سقط من جيبي أثناء وقوعي، ليخاطبني "أكيد تحمل الراديو لتسمع أخبار الغوغاء في إيران؟"، لم أفهم قصده، ظننته يمزح، لأنني جلبت الراديو لسماع أغاني السهرة التي اعتادت على بثها الإذاعات العربية ليلاً، طبعاً كنت معنياً بشكل ما بما دار في إيران، لكن ليس في تلك الليلة بالذات! أردت أن أقول، أنني لا أعرف ماذا يعني، لكنه ما أن رآني أهمّ بفتح فمي، صاح بنائب ضابط البطرية الذي رافقهما، لأن يقودني للسجن المجاور للمستودعات، السبب: "لمهاترته الما فوق". 
ثم وقبل أن أتحرك، أمرني بتسليم البندقية إلى نائب الضابط، وخاطبه، وهو يلدغني بالعصا، "منذ اليوم غير مسموح لهذا الكلب حمل السلاح". 
بعد ساعات، رأيت أنني لم أكن الوحيد الذي أُدخل السجن، بل ستة آخرين من الخريجين، خمسة من الجنوب وواحد كوردي! الخبر الذي سُرب في الكتيبة، أن المسؤول الأمني النقيب المساعد حيدر كريدي، اتخذ الإجراءات المناسبة لاحتمال حصول تمرد "معادي" متأثر بالثورة الإيرانية. بعد 3 أيام، حينما أُطلق سراحنا، نحن "العظماء" السبعة، كما أطلقنا على أنفسنا، عمم ضابط الأمن أمراً يحرم علينا حمل السلاح. الواجب الوحيد المسموح به لنا، هو واجب خفر قاعة، والسلاح الوحيد المسموح لنا حمله هو عصا بسيطة.
منذ ذلك التاريخ وكلما مرت ذكرى الثورة الإيرانية، كلما تذكرت وقفتي الأولى والأخيرة للحراسة وأنا أحمل السلاح في حياتي، و... نعمة أنها حررتني من إثم حمل السلاح منذ ليلتئذ و... إلى الأبد!