الإمام الكاظم (عليه السلام) السجين الذي صنع الحريَّة

ريبورتاج 2022/02/23
...

  ذوالفقار يوسف
يقشعر بدنه كلما تقدم خطوة، إنه المسير الوحيد الذي اعتادت روحه بلا إرادة أن تعاود المضي إليه، وهو ذلك الطريق الذي يعرفه قلبه بتفاصيله، ولا تضمحل معه القداسة، ولا يتلاشى اليقين في قربه من الله، إنه ابن بنت نبينا الكريم، لذلك كانت عظمته البهية تتجلى كلما وجدنا الله، لم يؤثر فيه إي انحراف، ولم يمسسه الظلام والشر، نور متسم بالتوازن والحق والعدالة والمساواة، فكيف لا وهو إمامنا الذي كظم الغيظ.
 
تدنو القلوب من قداستها كل عام في ذكرى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام أبي الجوادين الذي عانى ما عاناه في سنوات الظلم والجور لإكمال الرسالة المقدسة، ذلك الراهب المقدس الذي حارب الشر بالصبر، والسجون بالحرية، وها نحن نصل إلى أيام استشهاده، مقبلين نحو حضرته السامية ليكون ملاذاً للأرواح
المعتمة.
 
راهب آل محمد
اعتقل ليزج في غياهب السجن وظلماته، ورغم ذلك قد تميز بالحلم والصبر على الأذى، مظاهر فذة واجه بها طغاة العصر الذين حورب من قبلهم، إذ اضطهد وتم التنكيل به، ولاقى من المحن الكثير ليعاني من الخطوب والآلام، توسد بسجادته والتصق فيها شاكراً حامداً لما ألم به، لم يعاند القدر بل رضي به ليصل إلى ربه ومقامه العظيم، ليكون ذلك الكائن الذي يتعدى حدود البشر وطاقتهم في تحمل الأذى، ليكون ذلك الراهب الذي اعتكف تحت يدي ربه بإخلاص وصفاء
 الروح.
 
خطوات قدسيَّة
يلتزم محمد جاسم (33 عاماً) بعهده لهذه الزيارة، فهو في كل عام يجد قدميه تواصلان المسير نحو مقام الإمام المقدس، إن روحه ورغم شدة المصاب تستمتع بهذه الخطوات، وكأنه يريد أن ينقيها من كل شوائب الدنيا السوداء في ذلك المكان، يقول محمد: «نحن بأمس الحاجة إلى قدوتنا الفذة، وأن نكون حليمين عند الغضب كما كان، وأن نعفو ونسامح، وأن نقابل الإساءة بالإحسان كما كان إمامنا يفعل، فرغم الأذى والويل الذي عاناه كان يلتجئ إلى صفات جده الرسول الكريم بالصبر والتأني والصفح عند المقدرة، وما أحوجنا اليوم إلى تلك الرسالة النيرة التي تجعلنا نتطلع نحو السلام في كل تفاصيل حياتنا. 
وأن نكون واثقين بأن الظلام لا بد أن ينجلي تحت راية النور، وإن ثمار الطيبة والإيمان والمنهج الصحيح سنقطفها يوما ما، إذ لا فرج إلا ووسيلته
الصبر».
 
الإمام العابد
أزمات ونكبات رافقت حياة ذلك الإمام المقدس، فتارة يرشقه المتسلطون ببراكين الفواجع والأذى، وتارة أخرى الاضطرابات الاجتماعية التي رافقت هذا التسلط والتي عانى ما عاناه منها الإمام الكاظم عليه السلام، الحاج سعد محمد (55 عاماً) يحدثنا عن هذه الأزمات ويقول: 
«شهدت المرحلة التي عاشها الإمام عليه السلام الكثير من التقلبات السلطوية، وتعاقب هذه الأنظمة جعله يتعرض إلى العديد من الهجمات من قبل زعماء النهج الجاهلي الذين لم يستثمروا وجود الإمام، لينهوا بذلك هذا التكامل الروحي والمفاهيمي الذي كان يكمله، ليقضوا بذلك على وعي الإسلام المتجذر في نهج آل البيت (عليهم السلام) والذي كان يمثله الإمام آنذاك، فانعدمت القيم والمفاهيم النبيلة، وغابت الحقوق والمطالبة بها، وضيقوا الخناق على كل مناهج الحياة الصحيحة، ومنطق الإسلام الأصيل لتغيب تجارب المسلمين لاستحصال الإسلام
الحقيقي».
ويضيف الحاج سعد «كانت التعرضات وأسبابها واضحة المعالم، فالكفر والبغض وغياب الحقوق وانعدام المساواة كانت نتاج التعرضات التي واجهها إمامنا في امتحان الدنيا، لتهدم الأمة بعد ذلك ويخسر كل ذي حق حقه، محققة بذلك تكوين كائن شرير كل أهدافه هدم قيم
الإنسانية».
 
سجين الحق
ولصرف الأمة الإسلامية عن مسيرتها الارتقائية اقتضت السلطات الجائرة آنذاك التعرض إلى الإمام مرة تلو الأخرى لتنتهي بسجنه سنين عديدة، لتستنزف هذه الأحداث الكارثية النهج الصحيح نحو مسيرة الإسلام الحقيقي، الشيخ علي الحسيني يؤكد لنا أنه «بخطط سياسية استطاع وضعها السلطان الجائر وبممارسة خسيسة عرفناها من خلال المراجع التاريخية المعتمدة في الحقول التاريخية الإسلامية، استطاع الحكام آنذاك وبممارسات تتسم بالحكم والاستبداد والتسلط والظلم غير مدركين لأبعادها الحقيقية الخطيرة أن يكبلوا الإمام بقيود الشر والظلم، وكل ذلك لتسهيل طريق الفساد عن طريق السيطرة على مقدرات الأمة ونهب خيراتها، و ذلك أتى بالترهيب والقمع ووضع القيود التي تهدد الإسلام والمسلمين وما كان من الإمام إلا الاعتصام ليوثق الحقوق ويطلقها كالحمامة من قضبان الزنزانات التي كانت رفيقته في أغلب أيام حياته».
ويردف الحسيني «إن الإمام قد أحق الحق من خلال صموده في وجه الظلم والطغيان، وحمل لواء المعارضة وانطلق في ميادين الجهاد المقدس ليكمل رسالة جده، إذ إن المتسلطين قد استباحوا الحقوق واستبدلوا الكرامة بالذل وإرغام الناس على اعتناق الشر بكل أنواعه، ولكن هيهات فصوت الحق لا بديل له، وسينبثق ما دام هناك نور الله وأنبيائه وأوليائه
 الصالحين».
 
يقين الصالحين
وقد تختلف عبادات البشر وصلتهم بإلههم، فهناك من يحدثه أثناء نومه، وآخر قد توسد الفجر ليجد هذا الطريق الذي سيربطه بالرب، إلا إن إمامنا أبا الجوادين اعتكف على سجادته ليقترب، وليصبو نحو بوابة الإله العظيمة وعرشه المقدس، ليكون متيقناً بأن لا طريق إلا هذا الطريق، وليس للإنسان مصير غير قربه من الله ما دام من عباده الصالحين، فحارب القيود بالدعاء، وقضبان السجون بالسجود، فقد قال: «أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار
الفرج». 
يقول أحد شيوخ الدين «ولما كان مسجوناً (عليه السلام) في بيت السندي بن شاهك وكانت كل أوقاته عبادة وسجوداً، كانت أسرة السندي تطل عليه فترى هذه السيرة الزكيّة التي تحاكي سيرة الأنبياء، ما دفع شقيقة السندي إلى اعتناق فكرة الإمامة، وحفيد السندي من أعلام الشيعة في عصره إنها سيرة نبوية عريقة تملك القلوب والمشاعر، مترعة بجميع معاني النبل والزهد والسمو والإقبال على الله تعالى ليتوجه إلى الله بدعائه المعروف عند كل محبيه
ويقول: 
«إلهي خشعت الأصوات لك وضلت الأحلام فيك ووجل كل شيء منك وهرب كل شيء إليك، وضاقت الأشياء دونك، وملأ كل شيء نورك، فأنت الرفيع في جلالك، وأنت البهي في جمالك، وأنت العظيم في قدرتك، وأنت الذي لا يؤودك شيء يا منزل نعمتي، يا مفرج كربتي، ويا قاضي حاجتي، أعطني مسألتي بلا إله إلا أنت، آمنت بك مخلصاً لك ديني، أصبحت على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بالنعمة واستغفرك من الذنوب التي لا يغفرها غيرك، يا من هو في علوه دانٍ وفي دنوه عالٍ، وفي إشراقه منير وفي سلطانه قوي صل على
محمد وآله».