رائحة الحليب البكر.. الأمومة الأولى

ثقافة 2022/03/01
...

 ناجح المعموري 
إن المطابقة بين المرأة والطبيعة في الميثولوجيا أمر لا يجانب الصواب فإسهام الذكر في التناسل إسهام لحظي عابر. فالتخصيب أو الحبل لا يمثل سوى نقطة دقيقة من الزمن، إنه عمل آخر من أعمال الذري القضيبية، من عنده يبدأ الذكر في الانزلاق إلى الخلف بلا نفع يذكر. 
 
المرأة الحبلى تكون مكتملة شيطانياً.. المرأة الحامل لا تحتاج أحداً. سأجزم بإنها ــ الحبلى ــ التي تكون مهمومة ومستغرقة في خلقها، على مدى تسعة أشهر، هي أنموذج لكل أنواع وحدة وجود النفس التي وفقاً لها، تكون عزة نرجسية المرأة أسطورة حقيقية أخرى/ كاميلي
باليا.
يكشف الكتاب الموسوعي كما مهماً من المعلومات الجوهرية عن الثقافة في مراحل التطور الحضارية، وأسهب بالحديث عنها ــ أقنعة جنسيةــ موظفاً كل العلوم الإنسانية والاستفادة من الميثولوجيا  والانثربولوجيا واستطاعت عالم الاجتماع توفير زخم كبير م
 المعلومات.
ساعدت التمثيلات الصورية الكثيرة والنصوص الشعرية ماذا يعني صدر الأنثى وما يثيره امتلاء النهدين، إنها ــ الأنثى ــ متباهية بهما، وتعلن عنهما معاً، أو تمسك بواحد منهما، وتعلن عنه رمزاً دائم الحضور والإثارة ولفت النظرة المتأملة التي يجب عليها أن تكتشف تدويرة النهد وبروز حلمته. حتى أنانا/ عشتار في نصوصها الشعرية الأولى وما بعد طقوس الجنس المقدس، ركزت كثيراً على ما يثيره النهد ووظفته علامة استدعاء وتوليد إثاري أثناء الاتصال ودعوة مثل ذلك. وظل هكذا حتى بعد الولادة وتحول وظيفته.
«وينصب التركيز في التمثيلات الصورية» على خصائص المرأة الجنسية مثل الأثداء الفسيحة وكذلك الخصائص الأنثوية الأقل قيمة مثل البطن المنتفخة والأرداف، وربما أختار الفنان أن يبالغ في هذه الخطوط مثل رسامي الكاريكتير في أيامنا.. وربما كان الدافع من وراء ذلك متعة اللمس/ ري اناهيل/ قصة الجنس عبر التاريخ/ ت: إيهاب عبد المجيد.
ليس التمثيل العاري ملفت للنظر فقط، بل الجلسة المواجهة، متباهية لأن صففت شعرها ملموماً ومكوماً على كتفيها وكأنها أنجزت ترتيبه في صالون خاص. ألقمت ثديها باليمنى في فم رضيعها الصغير فرحة بوظيفتها الجديدة، الطفل يُداعب بيسراه عينيه والمرأة تضغط بإبهامها مدورة نهدها حتى ينزل له الحليب.
حصل تحول في جسد الأنثى بعد الخصب والحمل والولادة. وهي معلنة عن التحولات التي تحصل بالجسد. ثنية رجلها اليسرى واستلقاء الطفل فوق ذراعها اليسرى القائمة فوق فخذها. وامتدت ساقها اليمنى تحت جلستها واستقرت على كعب قدمها اليمنى.
في التمثيل الصوري اعتناء واضح على الرغم من صغر جسد الأنثى وتنطوي هذه التمثيلية على الروح الخفية المعطاة من المقدس الواهب للحمل، والرضيع امتداد للإلهي المقدس، حتى وإن كان المخصب رجلاً عادياً. 
قال فراس السواح: إن العذراء، تبدو في معظم رسومها وعلى حضنها أو ذراعها ابنها الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الرجولة، الاستقلال عن الأم طيلة فترة الحضارة المينوية. وفي معابد الخصب الكنعانية كان ميلاد الإله الاِبن يعلن بصرخة ابتهاج عالية عند منتصف الليل. وعندما ولدت الإلهة أنانا/ عشتار ابنها من دون مخصب اعتماداً على طاقتها الدائمة وبعد أن كبر تزوجته وأخصبت نفسها به، إذ استعادت قوتها الإخصابية الذاتية التي اطلقت نحو الحياة العامة. ومن هنا عرفت هذه الطاقة الاخصابية التي حازت عليها الأم الكبرى العشتارية، بأنها حصلت على ابن وزوج وصبي. ومثلما أضاف السواح: هذا هو شأن تموز ابن عشتار البابلية، وأدونيس ابن عشتاروت الكنعانية وأوزيريس في شكل حورس ابن إيزيس المصرية، وأتيس ابن سيبيل وزيونس ابن رحيا الكريتية/ فراس السواح/ لغز عشتار.
المؤنث يعول عليه. الأنثى رمز مكون من أيقونات كثيرة ومتنوعة. وهي شبكة رمزيات، تبدأ من رأسها وزحمتها بتشكيلاته الرمزية الصعبة والمعقدة، حتى تحول جسم الأنثى إلى رموز غفيرة، أكثر مما راموزات جسد المذكر والفاعلية الجوهرية لجسد الأنثى هي ما تستثيره في ذهن الناظر إليها وهو يراها تمثيلاً صورياً والمدهش أنه المتلقي يلتقط ممتلئات دلالية في مناطق جسدها الممتلئ بالرموز/ الأيقونات التي لن تغيب حتى بعد موتها، ولعل مفردة: العرية “مانحة للغياب حضوراً وكأنها ــ العرية ــ معاندة ومشاكسة، لأن ديمومة البقاء من خلال رموزها. ليس هذا فقط، بل كل ما هو مقترن بوجود الأنثى وعناصرها وتخيلاتها هي جزء حي من تاريخها: ذاكرتها وعلى سبيل المثال الأنثى لا تبتعد في تمثيلات الصورية عن الإلهة عشتار. أي أن الأنثى رمز جندري وعشتار إلهة/ جندر مقدس ولها شبكات رمزية “ولئن وجدنا رموزاً مطلقة لبابل، فهذا الباب هو أحد تلك الرموز، وأنا أسمح عن طيب خاطر، للون الأزرق ضمن الآلاف من حجارة القرميد المصنوعة منذ ألفين وخمسمئة عام أن يمسك بي، أن يخطفني، أن يستولي عليَّ. 
تلك الحجارة التي لا شك في أن أولئك الرجال الذين عاشوا أمس بالكاد يتسكعون أمامها، يسكرهم الدين والجمال. أن تكون أسفل باب عشتار يعني أن تنتقل دفعة واحدة إلى حضارة، أشعر من دون أن أتمكن من تفسير ذلك، بأنها كانت بالتأكيد حضارة عظيمة بما يكفي ليبذل في بناء باب واحد، حتى لو كان باب بابل، كل هذا المقدار من العناية والاحتراز/ باسكال ديبي/ مقارنة انثربولوجية/ ت: رندة بعث.
الإلهة أنانا/ عشتار رمز يتماثل من حيث الصفة مع الأنثى، أي أنثى، لكن الفارق بينهما، هو الصفة الألوهية والقداسة، لكنها ــ الأنثى ــ لا تختلف عن الوظائف الجنسية مع الإلهة عشتار وعودة إلى التمثلات الصورية، سنرى الأنثى أكثر احتشاما من أنانا/ عشتار، التي وضعها الشعراء الكهنة في مرتبة أرضية وسماوية، وأضفى عليها المجاز والراموز قيماً متساوية، وما يساعدنا على الاقتراب أكثر حول المشترك، لأن الجندر يوحد بينهما.
 وتكشف ذلك النصوص الأدبية لكن التمثلات الصورية وضعت الأنثى العارية متوجة بسعادتها، لأن العري تاج الأنثى التي تظل عارية باستمرار حتى إذا وضعت حجاباً، لأن عين الرجل يراها، يرى تفاصيل جسدها، حتى الكامن والمختفي، وعندما يلاحقها، فإنه يطارد بنظراته المتأملة بؤرة السر والسحر، لذا لا يمكن للأنثى العارية أن تختفي عن العين البصاصة، لأنها تحدق جيداً وتلتقط ما هو محجوب، بوصفها مكشوفاً وعارياً. 
من هنا وجدت بأن اقتراب الجسد العاري المتجاور مع الأسطورة عناصرها الشللية، هو شبكة من الرموز، ذات القيم والمفاهيم المفتوحة باستمرار، وتظل تغذي نفسها اعتماداً على الجماعات المتخيلة التي ابتكرت تلك الشبكات ومنحت الأنثى العارية ثقافتها. 
وأضفت عليها قيماً فردوسية لا يصلها إلا المذكر الذي ابتكر التعرف بلحظة بدئية قادته أن يتحول بطلاً وأمثاله كثر على الأرض.
الإلهة أنانا/ عشتار رمز أنثوي مقدس، ظل مستمراً حتى اللحظة وتسرّبت عناصرها إلى الإناث الآن، لكن الأنثى الآن ذكية وممتلكة للبراعة، من أجل أن تضفي على جسدها العاري/ أو المستور قداسة، يعرفها المذكر ويظل وراءها ملاحقاً ومطارداً، حتى تنتظر حلمه يتحقق.