غزو أوكرانيا.. الأخلاق والسياسة عند الإسلاميين

آراء 2022/03/01
...

   ابراهيم العبادي
تكشف الأزمات مفارقات خطيرة في ساليب التفكير ومناهج مقاربة الأحداث الجارية في العالم، لا تفضح الحروب المواقف واصطفافات المصالح والسعي لاغتنام الفرص الجديدة فحسب، بل إنها تكشف العري الاخلاقي وترينا (نسبية الأخلاق) عند من يتحدثون كثيرا عن المبادئ والقيم الأخلاقية، التي ينبغي أن تسود في العلاقات الدولية، لا أحد يجادل بأن النظام الدولي للعلاقات،.
 
تأسس ويتأسس دائما على قواعد المصلحة والقوة والامكانات والموقع الجغرافي، وبسبب تغير عامل القوة والتأثير وكثرة الحروب والنزاعات وهلاك الملايين من البشر في الصراعات الدامية، أضيفت مبادئ وقيم أُطرت بقوانين لحفظ السلم وتحقيق الحدالادنى من العدل وحقوق الشعوب والدول، بعبارة مختصرة بلغ العالم اعلى نضجه السياسي والاخلاقي في تنظيم علاقات دوله وفق معاهدات وتشريعات ومؤسسات، كالتي أقيمت بعد الحرب العالمية الثانية، لوحظ فيها حق الشعوب في السيادة والاستقلال والمحافظة على خصوصياتها ومصالحها.
الصيغة الراهنة للنظام الدولي لم تحقق العدل والانصاف كما ينبغي، ولم تنصف الضعفاء والفقراء كثيرا، لكنها في حدها الأدنى أفضل صيغة وضعية فرضتها مصالح الأقوياء وقبل بها الأقل قوة، أملا في عالم أكثر عدلا.
في منتصف القرن الماضي، كان عالمنا الاسلامي بمعية باقي دول العالم الثالث او النامي، يبشر بقيم وقواعد جديدة تدعو الى العدالة والإنصاف ولجم الحروب، ومنع العدوان وضمان الحق الآدمي بالعيش بسلام وأمان وازدهار، بينما كان قسم من المسلمين ذوي التوجه السياسي، وفق منظور جديد (الاسلام السياسي ) يبشرون بـ (البديل الاسلامي)، يدعون الى الحق مقابل القوة، والسلم مقابل الحرب، والعدل بديل عن الطغيان والظلم الناشئ من تنازع المصالح والطموحات التوسعية، بالاجمال (كنا) نتحدث عن نظرية في العلاقات الدولية اسميناها النظرية الاسلامية تارة، والانسانية تارة أخرى، باعتبار أن الإسلام يدعو الى السلام والأمن والعدل واحترام كرامة الانسان وحقه في الاختيار، إنه مع حقوق الفرد كما الجماعة، ومع حق الشعوب والدول في تحقيق ذواتها، سعيا الى عالم خالٍ من الحروب والويلات والدمار، بضمن ذلك منع الانتشار النووي وصنع واستخدام الاسلحة ذات الدمار الشامل .
طبعا لم يشذ المسلمون عن غيرهم في التصارع والتنازع بدوافع البشر السياسية والمصلحية، فكان العالم الاسلامي مسرحا لحروب كان يستعين فيها المسلم بـ(الكافر) ضد خيه المسلم، مستعينا بعدة تبريرية، فكان البعض يعتدي على البعض الآخر بغير حق، وكلها تحت مسمى المنازعات الحدودية او الدوافع الامنية او الحروب الاستباقية، لمنع التهديد الواقعي او المتخيل، في هذه الأزمات العنيفة كانت المبادئ والمشاعر والميول والاتجاهات والقيم الدينية والانسانية والخطابات الايديولوجية تُختبر اختبارا لا لبس فيه، كان البعض يندهش من مواقف تعبر عن (اعوجاج ) الفهم والسليقة وتشوهات الفكر وتحيزاته،اندهشنا كثيرا عندما انحاز كثير من المسلمين لنظام صدام في إعلانه الحرب على الجمهورية الإسلامية الفتية عام 1980، ووجدنا حركات اسلامية اصيلة تدعو الى (البديل الحضاري الاسلامي) والنموذج الديني تناصر نظام البعث (العلماني) في العراق، دونما مبرر أخلاقي سوى الانحياز الطائفي والاصطفاف القومي، كانت الدهشة اشد عندما وقف معظم الاسلاميين الى جانب صدام مرة أخرى في غزوه للكويت عام 1990، ووجدوا أعذارا سخيفة لهذا الموقف تحت مسمى وحدة الأمة، والوقوف خلف زعيم يريد توحيد الأوصال المقطعة لبناء (دولة الامة)، والوقوف بوجه الغرب الصليبي وتحرير فلسطين!.
فضحت أزمة الكويت وحرب تحريرها عام 1991 مبادئ وتنظيرات الكثير من (الاسلاميين) وبان الخواء الأخلاقي والعطب الكبير في فقه الأخلاق والسياسة الى درجة السذاجة، وانقسم المسلمون يومها بين مؤسسات افتاء تقليدية، تدعم حرب تحرير الكويت وشرعية الاستعانة (بالكفار) ضد باغ مسلم، بينما انحاز اغلب الحركيين الاسلاميين الى جانب نظام صدام، حتى وهو يسحق العراقيين تحت جنازير الدبابات بعد انتفاضة اذار 1991 مرة بداع طائفي لعين، وأخرى بدواعي الجهل والسطحية والنمطية الفكرية الساذجة، الى الدرجة التي جعلت رجلا مثل الشيخ علي بلحاج نائب الجبهة الاسلامية للانقاذ الجزائرية يومها، يصرح بأن سبب هزيمة وانسحاب جيش صدام من الكويت، هو عدم اطاعة الضباط الشيعة للاوامر!.
ولم يتوقف هذا التلبيس على العقول والفهم المغلوط لمجريات الامور، حتى وجدنا مشايخ دين وسياسيين ومفكرين ومثقفين وجمهورا كبيرا ينحاز الى القتل والارهاب في العراق بعد 2003 بدعوى المقاومة للاحتلال الأميركي ومناصرة الاسلاموية الجديدة، التي مثلتها فصائل (جهادية)، راحت تقتل العراقيين وتتغافل عن الأميركان.
في الازمة الاوكرانية الحالية، شهدنا انحياز أفراد وجماعات الى جانب منطق فلاديمير بوتين، مرة لأنه يريد تعديل النظام الدولي ومنع انفراد أميريكا التي يبغضونها بزعامة هذا النظام منذ انتهاء الحرب الباردة، ومرة بزعم أن اوكرانيا جزء تاريخي من روسيا، تماما مثلما رفع صدام شعار عودة الفرع الى الاصل في دعوى احتلال الكويت، اخرون يلومون رئيس اوكرانيا زيلينسكي لأنه انحاز الى أميركا والغرب وانه غير مؤهل سياسيا، فلم يكن سوى ممثل كوميدي، بينما راح آخرون يشمتون به كونه يهودي الأصل!. وذهب العباقرة الى امتداح الانتفاضة البوتينية ضد الانفراد الأميركي واعتبروا غزوه لأوكرانيا تصحيحا لمسيرة التاريخ!.
غابت عن أذهان المناصرين للغزو أنهم ينحازون لمنطق الغطرسة والقوة والاعتداء على سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصائرها وتقدير مصالحها والعيش بسلام وأمان وحرية واختيار، لا يُفهم هذا التأييد للغزو الا براغماتية لا تلتقي مع مبادئ التضامن الانساني، هي ازدواج معايير وانتقائية كانت مذمومة يوما على ألسن من يمتهنونها اليوم، حدد القرآن الكريم مبدأ العدل وجعله قيمة عليا، فقال "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"، إن الشنآن لأميركا وسياساتها. والغرب عموما وللمحور الأميركي وحلفائه لا يسوغ الانحياز للآخر، الذي يزدري إنسانية الإنسان في اوكرانيا ويدمرها بدواعٍ واهية، ولا يمكن القبول بدعاوى حماية انفصاليين هناك ورفضها في أماكن أخرى، إن منطق موسكو الموارب في رفع شعار دعم الأقلية الروسية والتدخل العسكري لحماية الأمن القومي وإبقاء روسيا قوية مزدهرة دونما تهديد أوكراني مزعوم، سيكون سلاحا يتكرر ضد دولنا الهشة وفسيفسائنا القومي والطائفي، نحن الذين تهتز الأرض تحت أقدامنا في كل أزمة تشتعل في عالمنا، أحرى أن ننحاز الى قيمنا وأخلاقنا، وأن نتبين الحق في مواقفنا استهداء بمقولة صوت العدالة الانسانية عندما رفض مبدأ (طلب النصر بالجور)، وقبله مقت الله تعالى للحرب عندما وصم اليهود بانهم يوقدون أوارها "كلما أوقدوا نارا للحرب اطفأها الله"، إن انحدار الخطابات الأيديولوجية الى هذا الحد المنافي للقيم الانسانية، يكشف عن سبب عجزنا الذاتي عن حل مشكلاتنا الداخلية، الازمة عميقة.