في كابوس الحرب

ثقافة 2022/03/02
...

أول كابوس تجلبه الحرب هو الظلال التي ستتركها، والتي لن نتعرف على العالم فيها إلا على شكل أجزاء متناثرة، كما لو أن ليس هناك من وسيلة للتعرف على العالم الذي كان حتى فترة قريبة مرتبط بنا بصورة عميقة.
 نجم والي
لا أتكلم عن معرفة عامة للحرب فقط، إنما عما عشناه، نحن أولئك الذين اكتوينا بالحرب وبكل أشكالها، بكل ما تجلبه من موت ودمار وحرائق وعدم، ففي ليلة وضحاها، ما أن تندلع الحرب، وتطلق صفارات الإنذار نذيرها، حتى يثبت لنا بأن كل ما تعلمناه وما قرأناه، بأن كل ما عرفناه عن الناس وجربناه معهم، بأن كل ذلك الذي رأيناه من خلال العالم وأحسسنا به، كل ذلك: ما عاد يعني لنا شيئاً على الإطلاق، كما لو أن الزمن تجاوز كل الناس الذين عرفناهم وكل الحِكَم والتصورات التي امتلكناها حتى اندلاع الحرب ـ لكي لا أقول كما لو أن الزمن سحقهم ـ كما لو أنهم إنسلوا إلى ليل الأبدية.
أعرف أن سبب ذلك هو راديكالية الحرب، ولا حاجة لأن يقول ويشرح لي ذلك أحد. فذلك الذي يحدث ويتطور عادة في عشرات السنين، في عدة قرون، تُجهز عليه الحرب كاملاً دفعة واحدة وبلمح البصر، وأقصد هنا كل تلك التغييرات المتعلقة بأشكال حياتنا وسلوكنا وثقافتنا كما عرفناها عنا وعن الآخرين وعن المحيط حتى لحظة اندلاع الحرب. كأن الحرب وما أن تبدأ بتدوير ماكنتها، تعوض عن عمق الاستمرار الزمني. 
إنها هذه الأضرار التي تجلبها الحرب والتي لا يمكن لأحد منا تفاديها، هذه الأضرار التي تأخذ أشكالها في الحياة، في الأفكار، في المشاعر، في الطبيعة، بل حتى الملابس التي لبسناها حتى يوم نشوب الحرب، تنزعها الحرب عن أجسادنا، ولا علاقة لذلك بنوعية ما تعلمناه أو بمقدار حميميتنا مع الشخص الذي ارتبطنا معه أو درجة قربنا أو مدى نفورنا منه. فكل شيء كنا نعرفه قبل الحرب يتجه إلى مسافة عميقة: يحمل دمغة «ما قبل الحرب». وكأن كل ما عرفناه خص عصراً بعيداً وغريباً جداً.
بهذا الشكل يغطس زمان الحرب في بحر ماضٍ بعيد، أبعد مما نستطيع أن نضع له تاريخاً. الحرب تُمزق كل شيء في النهاية، تعريه أمامنا، وكل شيء يصبح مباشرة بعد الحرب غريب عنا (حتى أهلنا الذين تربينا في أحضانهم) ولا يهم إن كان الشيء ثميناً أم عديم القيمة، كل ما يعود لزمن ما قبل الحرب لا يعود يعنينا ببساطة، لأنه لا يقول لنا شيئاً عن تجربة الحرب التي نعيشها والتي استحوذت على حياتنا، بل لأنه لا علاقة له بالحرب التي جاءت على الأخضر واليابس، وتركت ظلالهما على الناس، على أشكال الحياة، على الأفكار، على المشاعر، على أولئك الذين نحبهم، وعلى أولئك الذين نكرههم، على أنفسنا سيان أن أحببناها أم لا، وأشعرتنا من خلال الدمار الذي ألحقته بنا، بغربتنا عن العائلات التي تربينا في أحضانها، عن أصدقائنا، عن أحلامنا، عن الأحبة الذين عشنا معهم، عن شركائنا، حتى عن ملابسنا التي نلبسها التي هي أقرب من كل شيء إلى جلدنا، بل ما عادت تتنفس مساماتنا الهواء ذاته الذي اعتادت على تنفسه قبل الحرب، كل شيء عفن، عفن هذا الهواء الذي نتنفسه، بعفونة البارود، بعفونة دخان السجائر التي تضرب في أيام الحرب على فراق أفواهنا، عفن هو الماء الذي نشربه لأنه مخلوط بصدأ المدافع، بالدم، عفنة هي الأفرشة التي ننام فوقها.. كل شيء عفن وغريب.. على الرغم من ذلك إننا نعيش في أيام الحرب ونتصرف كما لو لم يحدث
شيء. 
في بلاد احترقت أصلاً، كأنها احترقت بالنسبة للآخرين، لكن لم تحترق بالنسبة لنا. وكم يصعب الحديث عن الحرب لمن عاشها، من اكتوى بحريقها لا قدرة له على الحديث عن تفاصيلها، الحديث عنها بتسلسلها الزمني، وإن حاول، فسيتمرد الشخص الآخر في داخله على رواية ما جرى بتتابعها الزمني البسيط، لا سيما أولئك الذين يخدمون الحرب على خطوط التماس والنار، على الجبهات.
وحين تنتهي الحرب، سنحاول تذكرها، تذكر ما مرّ علينا من جحيم، ونتساءل: هل ما حدث لنا، حدث بالفعل؟
هل ما عشناه هو حقيقة أم أنها ذاكرتنا (مثل أية ذاكرة أخرى) انتقائية، تستل ما تريد، تأتي على هذه الصورة وتترك تلك؟
وماذا عن مشاهد الرعب، هل نستطيع روايتها؟ كيف لنا القدرة على رواية مشاهد الموت هناك، مشاهد القتل والاغتصاب؟
 من أين يأتي الشلل في كل ما نرويه؟
هل لأننا لم نعد نثق حتى بأنفسنا، بقدرتنا على قول الحقيقة من دون شعور بالذنب، إننا كنا هناك وسط الحرب، لكننا لم نفعل ما يساعد منعها، إن لم تكن لنا القدرة على إيقافها بعد نشوبها؟ أم هل هو يأسنا الذي يقول: وماذا ينفع رواية قصة لن تغيِّر من مسار الأشياء، ولن تجعل ما حدث يصبح غير موجود؟
لا أدري، كلها أسئلة تظل تطنّ في آذاننا، وتصبح أعلى صوتاً بعد نهاية الحرب، إنها الهدنة غير المعلنة مع أنفسنا والتي اِعتدنا عليها في أيام الحرب، ونحن نعيش الخوف الذي يشل الجسد واللسان، إن لم يكن صمتنا، لأننا اِعتدنا أصلاً في البلاد على السكوت، على عدم طرح الأسئلة بصوت عال.
لكن مهما صمت الناس أو تغاضوا، يظل سؤال واحد يلح، سؤال يبدأ مع يوم نشوب الحرب: 
 أو «من المسؤوول عنها»، بل «من الذي حرض عليها؟». «من ارتكب الجريمة؟».
ربما علمتني الحرب قول ذلك وبصوت عال؛ فإذا كان الكثيرون لا يعتبرون الحرب جريمة، فإن ذلك أمر يخصهم، لكن الأمر بالنسبة لي واضح وضوح الحرب: “إنها جريمة”، ولو أسلمت نفسي للسؤال التقليدي الذي يأتي عليه ضابط شرطة الإجرام عند التحقيق بجريمة قتل: وهو “من ارتكب الجريمة؟” ففي حالة جريمة الحرب، أقول: نكون كلنا مجرمين، فاعلين ومتفرجين، موتى وأحياء، قتلى ومقتولين.
وفقط معرفة ذلك، هو شرطنا الإنساني الفعّال لإيقاف الحرب، أية حرب، لا يهم أن الوقت قد تأخر، في حالة نشوب الحرب، ليس هناك ما هو مبكر وما هو متأخر أو فيما بعد، هناك فقط الآن: إيقاف الحرب.. أية حرب!