اِتْبَع النشيد

ثقافة 2022/03/02
...

 علي محمود خضيّر
 
القصيدة تحويلُ الكون إلى نشيد. كلُّ شعر هو أغنية بالضرورة. ولا يدري المرء أيُّهما يُستخلص من الآخر. منذ ترانيم الكهوف الغابرة حتى تطبيقات (الكاريوكي) ظلّ النشيد جَناح البشرية تُحلّق به فوق المحنة، محنة أن تكون مرئياً وتحت التجربة. ولأنّ الشعر موكولٌ بالوجود، فكل قصيدة هي محاولة لإنشاد الوجود، أغنية تؤديها حناجر لا نهائية، تتوتّر بين الأزل والأبد. أو كما قال السيّاب: «أغنيةٌ واحدةٌ للألوف/ تخرج كالبركان من حنجرة/ حنجرة واحدة كهفها جمّع كلّ الكهوف».
كل نأمة في العالم يحملُها على سُلّم الوجود إيقاع مضمر، والقصيدة تجسيد لهذا الايقاع. إن رفّة جَناح فراشة يُمكن لها أن تهزَّ قلب البحر، مثلما تميلُ قصبة هور الحمّار بهبّة الريح ذاتها التي يرتجف لها غصن على سفح كورك. في قلب كل ما حولك من حركة، أو صوت، أو جماد، نغمة تنتظر من يحررها. ونعرف أن الشعر لا يُكتب بالكلمات فقط. مثلما هناك موسيقى يتعذر التعبير عنها حتى بالموسيقى، لأنها تسبق القالب وتعلو على التصوّر، أو لأنها المعنى المطلق والمغزى اللا نهائي، وهنا ملعب الشعر الأثير. حتى الأفكار (تتناغم) و(تنسجم) بين المخيلة والذاكرة. وحُسن إنصات الكاتب لتلك (الهارموني) واقتناصها، وتحقيق وجودها المرئي، من ركائز الكتابة الناجحة.
*
والقصيدة أيضاً سبيل إلى الضَّالّة، نكتبُ لننشُد ضالتنا، تلك التي نعرفُ مسبقاً أنّها ستظل مفقودةً كفردوس (مِلتون). والناشد طالبُ حاجتَه، فهو ينشدها، هكذا الشاعرُ والقصيدة؛ طالبٌ وحاجة، وسيلةٌ وغاية، في آن. لكنه ناشدٌ مُضيَّع، لا دليل في يده، ولا برهان على نبوته، إلّا بآخر/(قارئ) يتحقق علي يده القبض على الضالّة، كأنّ الكاتب، هنا، مبتلى بلعنة الانشاد/ التيه الأبدي، «أيُّها الناشدُ غَيرَكَ الواجد». 
*
أتخيَّل النشيد أسبق من اللغة، الأخيرة جاءت لاحقاً، للتفسير والمنفعة. النشيد متخلٍ عن الاثنين. يتجاوزُ الفهم بقوة الإحساس، لذلك نتأثّر لقطعة موسيقيّة من دون أن نفهم مغزاها، ولذلك نندمج بأريحية مع أغنية نجهل لغتها. الكلمة قوية، وحين تُنشد، يمكن لها أن تفتح كوّة في النفس، قديماً قالوا في اشتقاق الكلمة: من الكلم، أي الجرح.
وإذا كانت لكلِّ نأمةٍ حولنا إيقاعٌ، فإنّ اقتصار فضيلة الموسيقى، في الشعر، على النص الموزون فحسب، جحودٌ لعبقرية الموسيقى وقدرتها على اختراق الهيئة المتعارف عليها للأشياء. إنّني أرى النشيد في كل شيء، لذا حتّى الشعر المكتوب بالنثر يحمل/ (عليه أن يحمل) طاقةً إنشادية. ففي النثر المحض موسيقاه المُنتظرة، كما في بيدر حقل تكمن الجمرة!. 
إنَّ اختبار موسيقى النثر واحدٌ من أعذب اشتغالات الشاعر في بحثه عن الشعر وأشدها حماسة ومشقة. وإلّا كيف ندفعُ شبهة الشعر عن نثر الجاحظ والتوحيدي وأدعية الأئمة ومناجاة العابدين؟ الشعر فضاء، والفضاء لا يُختصرـ أو يُحدّ، أو ينتهي.
*
على ضوءٍ شحيح، وفي ورقة مطوية وجدها برازونة بيت على حافة الصحراء، قرأ المنشدُ المريد: بعض الأناشيد تُقال همساً، وبعضها برفع الصوت، النشيد: رفع الصوت (لسان العرب)، بعضها بلا آلات، ولا منصتين، وبعضها، تُتلى، قبل الصوت والصمت والآلة والمُنصت، وبعده. اتبع النشيد يا صاحبي! كُن النشيد!