ماكنة الشعر.. ما الذي يجعل من كتابةٍ ما قصيدة؟

ثقافة 2022/03/04
...

  ماثيو زابرودر 
 ترجمة: علي رحمن
حين كتبت الشعرَ للمرة الأولى في بداية العشرين من عمري، لم أدرك الكثير عنه ولم أدرس الإنگليزية في الكلية، كما لم أقرأ كثيرا من الشعر الأميركي. فشعرت بالإثارة والحيرة والارتباك في وقت واحد. ولمست وجود المعنى هناك، في مكان ما، شعرت به والشك يكبر في نفسي في البحث في المكان الخطأ، أو ضياع المهم الحقيقي.
 
حينها، كان انطباعيَ غامضًا عن استخدام الشعراء اللغة الشعرية والأساليب للتعبير عن الذهنيات أو الأفكار الحقيقية بأسلوب أكثر جمالا أو تعقيدًا أو ضغطا من النثر. 
أي ثمة شيء ما حول مستوى اللغة - جمالها أو تعقيدها أو صفاتها العالية - التي أعطت النص المكتوب حالة الشعر، وميزتها عن النثر.
فكلما قرأت أكثر وكتبت الشعر أكثر، رأيت بصفاءٍ عدمَ وجودِ ما يسمى «اللغة الشعرية».
كلماتُ القصائدِ هي ذاتها الكلمات في كل الأماكن الأخرى. فطاقةُ الشعر تولدُ بجوهرها من إحياءِ وإعادة توليف اللغة التي نتعرّف عليها ونعرفها. 
ثم لاحظتُ، بطبيعة الحال، أفكارًا في الشعر، لكنها دومًا بعيدة المنال، فكانت مهمةً على نحو معين وغير مهمة على نحو آخر، أو على الأقل ليست الأكثر أهمية.
فكان التركيز على تلك الأفكار، ومحاولة الإخبارِ عن ماهيةِ القصيدة، ما يختزلني دومًا، كما لو كانت الغايةُ الأهم متروكةً بالكاملِ على عاتقٍ يحمله فعل التفسير. 
فيبدو الشعر حوارَ شيءٍ آخر، شيءٍ كخلقِ مزاجٍ مغاير، أو فضاءٍ عقلي، أو طريقةٍ للتفكير. 
كتب الفيلسوف لودويغ فيتغنشتاين:
«لا تنسوا أن القصيدة، على الرغم من تشكلها من لغة المعلومات، لكنها لا تسخدم لعبة اللغة لإعطاء المعلومات». 
فليس الشعر إلّا وسيلة بالغة الجمال لإيصال الأفكار والتجارب والمشاعر؛ النثر، بعد كل شيء، يفعل ذلك، ويمكن أن يكون بجمال الشعر كذلك.
فلو لم تكن لإعطاء المعلومات، ما وظيفة اللغة الشعرية؟ وماذا تؤدي بخلاف النثر؟ ولماذا؟. 
وهل نعود كقرّاء وكتّاب لحراستها؟ 
مفهوم النوع - فئة محددة من الكتابة مثل الشعر أو الروايات أو المسرحيات - غير عصري في الوقت الحالي، إذ تكون هذه الفئات مُقَيِدة وغير مرضية  للكثير من الناس.  فطاقة الأدب المعاصر تكمن في العبور وخلط الأنواع المختلفة في قطعة واحدة - نص - من الكتابة. 
ولكن حين يجيءُ الحوار للشعر، قد يكون التفكير في النوع مفيدًا بطريقة فردانية أكثر، حتى لو كان لمرحلة معينة على الأقل، لأن مسألة النوع في الحقيقة هي مسألة الغرض: لماذا اختار الكاتب نوعا معينا في الكتابة، وكيف يؤثر هذا الاختيار على كيفية قراءة العمل المعروض علينا؟. 
فعادة ليس ثمة ما يدعو للتفكير في سببِ قراءة الأشياء، فثمة في كثير من الأحيان حس بديهي ولحظي لماهية الشيء، ومن ثم آليَّة قراءته. من دون ضرورة أن يكون مرويا، فالفرق واضح بين قراءة رواية وقراءة الصحيفة، ونعرف ضرورة البحث عن المختلف بين تلك التجارب. 
القصص والروايات تخلق الشخوص والمشاهد وتروي القصص، الصحافة تنقل المعلومات؛ المقالات يصعب تصنيف جهدها لاستكشافه، لكنها في المجمل، فكرة معينة، إن المقالات الافتتاحية ومقالات المواعظ تخبرنا بما ينبغي وما لا ينبغي لنا فعله، وما نؤمن به، وهلم جراً.
لا أحد قادر على إخبارنا لماذا نكتب القصائد أو ما هو الغرض منها؟، لماذا هم متحيرون جدا؟ ما هو المنشود للبحث عنه؟ وما هي الفائدة من القافية، والشكل، والاستعارة، والصورة الشعرية؟ هل هو ديكور في القصيدة أو لجعل الرسالة فاتنة؟ 
جاذبية نوع من الرسالة في القصيدة؟ ما هو الغرض من الشعر؟.
فحينما تخطر لي مثل هذه الأسئلة، أفكر في ما كتبه بول فاليري (1871 - 1945) في «الشعر والرؤى التجريديّة»: «القصيدة في الحقيقة نوع من أنواع المكائن لإنتاج حالة ذهنية شعرية بالكلمات». فاليري كان الأقرب لي دوما بوصفه من أي شخص آخر لما تفعله القصائد:
لو كان اصطلاح الماكنة يثيرك، ولو بدت مقارنتي الميكانيكية غير متقنة، لطفًا، لاحظ أن تركيب القصيدة حتى لو كانت قصيرة قد يمتدُّ لسنين، ولا يأخذ حدث القصيدة من القارئ سوى دقائق معدودة. 
 بدقائق معدودة يتلقى القارئ ما يصدمه من الاكتشاف والترابط ووميض التعابير المتراكمة خلال أشهر من البحث والانتظار والصبر والسأم من الصبر. 
القصيدة تغرسُ الشعر في ذهن القارئ أو المستمع يحدث ذلك أولا للشاعر، وفي مرحلة الكتابة هذا التقرير، يصنع الشاعر في نهاية المطاف شيئا، ماكنة صغيرة، ماكنة تقدّم للقارئ الاكتشاف والترابط ووميض التعابير. ماكنة تنتج هذا الفعل مرة تلو الأخرى، في كل وقت نشعر فيه بالحاجة لذلك. 
يمكن وصف «الحالة الذهنية الشعرية» التي يحدثها الشعر بشيء قريب من حلم اليقظة، حالة وعي عليا وأكثر وعياً وأكثر انفتاحا وحساسية. القصيدة هي التي تقوم بهذا الفعل لنا بوضع أذهاننا، ونحن نقرأ أو نستمع، في انسجام مع الخواطر أو المعاني أو الأفكار التي تبذلها القصيدة وهي «الاكتشاف، الترابط، ووميض التعابير». 
في رسالة، كتبت إميلي ديكنسن، «حين أقرأ كتابًا وأشعر ببردٍ في كلّ جسدي ولا نارَ تدفئني فأعرفُ أن ذلك هو الشعر. حين أشعر فيزيائيًا باقتلاع الجزء العلوي من رأسي أعرف أن هذا هو الشعر. أنا أعرف الشعر بهذه الطريقة الوحيدة، هل ثمة أية طريقة أخرى؟». 
تروق لي هذه الإجابة أيضا، لتمييزها - مثل تعريف فاليري - الشعر عن الأشكال الأخرى للكتابة من دون المعيار الرسمي - مثل القافية أو فواصل الأسطر أو الموسيقى أو استخدام الصورة أو الاستعارة - ولكن بتأثيرها. 
تعريفها وظيفي وتجريبي، عاطفي وذاتي: أعرف الشعر، كما تقول ديكنسن وفاليري، لما يشعرني به، بما يفعل لي.
كيف يخلقُ الشعر الحالةَ الشعرية في ذهن القارئ هو السؤال الجوهري. ويحدث ذلك من خلال شكل القصيدة، الذي يرشد ذهن القارئ. وكذلك من خلال قفزات مترابطة. كلما استقصت القصيدة، حفّزت، وتلاعبت بطبيعة اللغة ذاتها.
القصائد وُجِدَت لخلق مساحة لإمكانيات اللغة بوصفها مادة. وهذا ما يميزها عن كلّ أشكال الكتابة الأخرى. 
تسمح القصائد بوقتية اللغة المتأصلة، بشكّها، وانزلاقها. كما تعطي المساحة لجسدها نفسه - الطريقة التي تظهر بها، وتبدو بها وشعورها في الفم- لخلق المعنى. 
وتذكرنا كذلك القصائد بما نراه حتمياً: القدرة الإعجازية والرقيقة للغة على ربطنا ببعض وبالعالم الذي يحيطنا. 
طبيعة اللغة المؤقتة، المراوغة، والزئبقية تكون مكتومة في الحوارات العادية، وكذلك في أغلب الكتابات الأخرى. 
 ما يميز القصيدة عن توظيفات اللغة الأخرى، أنها لاتزال المكان الوحيد المصمم بوضوح لتوظيف العلاقات المخفية حين تكون اللغة كائنة لغرض آخر.
تنتظر اللغة تحررها في الشعر. الشعر يسنّ الاحتمالات والقوى الخامدة في طبيعة اللغة نفسها. القصائد هي مكان التناقضات والاحتمالات لمواد نظام صانع للمعنى بتأنٍّ للاحتفال به، من دون عشوائية لأي غرض أساسي آخر. 
نقيضًا لأشكال الكتابة الأخرى، تتجلى مهمة الشعر الأساسية بالإصرار والاعتماد والاحتفال بالعلاقة المضطربة للكلمة بما تمثله. مقتفيًّا الجمال والشك في اللغة، للوصول إلى حقيقة أبعد من قدرتنا على التعبير بوضوح عندما نحاول «استخدام» اللغة لنقل أفكارنا أو حكاياتنا.
يأخذ الشعر حدوده المتأصلة من مادة اللغة - فالكلمات غير دقيقة في كينونة علاقتها، وكذلك في دلالتها الكلية - ويحولها إلى منطقة تواصلية. 
بشكل مُلفِت، مستحيل، إعجازي، ننظمُ بوسيلة أو بأخرى فعل التواصل والمعنى على الرغم من نقص أداة اللغة. 
وبهذه الطريقة، تكون العلاقة المؤقتة والواهية والمثيرة والهشة والناقصة، للقصيدة باللغة والمعنى كثيفة المتعة، فيمكن القول هي نوع من الاستعارة لعلاقتنا الخاصة باللغة والعالم وبعضنا البعض. 
فقد يكون ثمةَ حزن وفرح في هذا الاعتراف بصيرورة الإنسان. يمكن القول إن علاقة القصائد بما يكون بديهياً، ولكن لا يمكننا أن نقول بشكل كامل، إنها تكون مثل الصلاة - ذلك الجهد اللانهائي لتقريب الأشخاص من عالم اللاهوت – من دون التظاهر بأن عالم اللاهوت يمكن أن يكون معروفاً أو مفهوماً تماماً. حين ننتبه للغة الشعر، لكلمات القصيدة التي نراها أمامنا، نحصل على وميض من الواقع، والمفارقة، والتعقيد، وعدم اليقين الكامن عادة خلف الطريقة التي نتحسس بها العالم. فيمكن للكلمات والأفكار أن تُخفَّف وتتحرر للحظة، حتى نعيد تجريبها من جديد. لا يمكن مطاردة قوة المادة المحفزة للغة في الشعر بشكل كامل إلا حين لا ينشغل الكاتب في نهاية المطاف بأية مهمة أخرى، مثل رواية القصص أو الشرح أو الإقناع أو الوصف أو أي شيء آخر. 
في قصائدهم، يوظف الشعراء تلك الأشياء، فقط حين يشعرون أنها تلائمهم. 
الشاعر مستعد دوما للتخلي عن هذه الأساليب. كل قصيدة حقيقية تتميز، في مكان ما، بتلك الحرية. وباتخاذ هذا الخيار للاستعداد لرفض جميع الأغراض الأخرى، من أجل إمكانيات اللغة المحررة من المنفعة، يصبح حينها الكاتب شاعراً.